الخبر وما وراء الخبر

في موكب النور

143

د. أحمد صالح النهمي

إنها لحظةٌ فارقةٌ تلك التي تعانقت فيها تسابيحُ السماء بأناشيد الأرض، فارتسمت على جُدران الزمن نقطةُ الحدِّ الفاصل بين عهدَين، عهد مدبر يجرجر خلفه أوثانَ الشرك وأستار الليل، وظلمات الجاهلية، وعهد مقبل ينسج من حلكات الهزيع الأخير من الليل تباشير الفجر، لتشرق على صفحات الزمن الجديد شمس الهداية، وتنساب مواكب النور على إيقاع مآذن التوحيد تحمل رايات العدل وأعلام المساواة.. إنها لحظة البشرى بقدوم الرحمة المهداة، وولادة النبي الخاتم، الهادي إلى الصراط المستقيم.

بشرى النبوّة طافت كالشذى سحرا     وَأعلنت في الربى ميلادَ أنوار

وَشقّت الصمت وَالأنسام تحملها        تحت السكينة من دارٍ إلى دارِ

وَهدهدتْ ” مكّةُ ” الوسنى أناملها         وَهزّتْ الفجرَ إيذاناً بإسفارِ

وما زال نور الهدى متّزراً بالحقّ، متّشحاً بالنور، يتنقل بين مراحل الحياة من الطفولة والشباب وصولاً إلى الرجولة فالرشد، وحين اكتمل التكوين النبوي، وجاء الأمرُ “وانذر عشيرتك الأقربين” انطلق صوتُ الوحي داعياً إلى الله، مبشراً بالزمن الجديد، فاغتمت طواغيت القوة الجاهلية الباطشة في المجتمع المكي ولم تستوعب حركة التغيير، فصدّت عن سبيل الله وفرضت وصايتَها على المسلمين المستضعفين، وبالغت في إيذائهم وتقييد حرياتهم، فقرّر النبي الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام أن يترك أحبَّ البقاع إلى قلبه مهاجراً إلى الله، ميمماً وجهتَه صوبَ يثرب موطن أجدادنا اليمانيين، فكانوا أنصارَه الصادقين في بناء مجتمعِ المدينة المنورة، واستبشر النبيُّ خيراً بإسلام رجال قبائل اليمن، فقد دخلوا في دين الله أفواجاً، ثم حملوا على أكتافهم مشاعلَ النور وألوية الهدى في مشارق الأرض ومغاربها، تاركين على كُلّ مدينة وصلوا إليها أو قرية أو مروا بها أشذاء من عبير شهادة “الإيمان يمان والحكمة يمانية” التي صاغها النبي الأعظمُ وساماً على صدورهم يعكسُ مصداقيةِ عقيدتِهم الإيمانية وخصوصية طبيعتهم الحضارية.

نحن اليمانين يا “طه” تطيرُ بنا    إلى روابي العلا أرواحُ أنصارِ

تظافرت في الفدى حوليك أنفسُهم         كأنّهنّ قلاعٌ خلفَ أسوار

إذا تذكّرت “عمّاراً” وَمبدأه             فافخر بنا : إنّنا أحفادُ “عمّار”

وعلى هُدَى من تعاليم الوحي الإلهي، وقبس من أنوار السنة النبوية الشريفة قرر اليمانيون في لحظة وعي أصيل أن يهاجروا دوائرَ الوصاية السعودية وهيمنتها على القرار السيادي اليمني، بعد ما يزيدُ على نصف قرن من عُبودية الزمن الأثيم وسيطرة قوى الاستعمار على خيرات البلاد ومقدراتها، فمزقوا أستارَ الليل، وحطموا جُدران الظلام، وانتفضوا في وجه أدواتها التي تساقطت الواحدة تلو الأخرى كحبات مسبحة مهترئة، وانطلقوا يلملمون أحلامهم في التحرر من كافة أشكال الوصاية، وبناء دولتهم اليمنية المنشودة القائمة على الشورى والعدل والحق والمساواة. مؤكدين على حقهم في مقاوَمة المعتدين، ومقارعة الظالمين والذود عن الوطن، والجهاد في سبيل تحقيق الكرامة الإنسانية.

لم تحتمل قوى العدوان والظلام خروجَ اليمن من قبضة هيمنتها وانطلاقه نحو آمالِه المرتقبة، فحشدت مرتزقتَها لشن أحقر عدوان عرفته البشريةُ في تأريخها المعاصر، وبعد أكثر من تسعة أشهر من العُدوان الهمجي المتواصل اعترفت أخيراً أن القتل والتدمير لم يزد اليمانيين إلا صموداً وقوةً وإصراراً على مواَصلة طريقهم في التحرُّر من الهيمنة السعودية ووصايتها المقيتة، وأن المقاتلَ اليمني قادرٌ على ردع المعتدين وتلقينهم دروساً لن تنساها كُتُبَ التأريخ التي أكدت على الدوام بأن اليمنَ مقبرةٌ الغزاة.