ثورة الدستور..أسئلة على بوابة الذكرى.
ذمار نيوز | مقالات 13جماد ثاني 1440هـ الموافق 18 فبراير، 2019م
بقلم د.| أحمد صالح النهمي
لعل السؤال الذي يطرح نفسه في مقامنا هذا هو : ما جدوى العودة إلى الماضي والتحليق في أجواء ثورة 17فبراير الدستورية 1948م واستحضار ملامحها وبلادنا تعيش بعد أكثر من سبعين عاما من قيامها حاضرا بائسا في ظل حصار عدوان خارجي سافر، واقتتال داخلي مؤسف تغذيه قوى الخارج، وتواطؤ دولي ، وانقسام حاد في المواقف بين القوى السياسية، وغياب أو تغييب تام للرؤى الوطنية الداعية للسلام، والحاملة للمشروع الوطني؟
والإجابة على هذا السؤال تدعونا ــ بادئ ذي بدء ــ إلى التأكيد على أن العودة إلى قضايا الماضي وفهم ملابساتها شرط أساسي لتفكيك شفرات قضايا الحاضر، وإنتاج الإجابات الموضوعية لأسئلتها، وبلورة الحلول المناسبة لمشكلاتها، فكما أن الحاضر هو امتداد للماضي وثمرة من ثمرات غرسه، فإنه من جهة أخرى دليل المستقبل، وصانع تحولاته، فالصلة بين الماضي والحاضر والمستقبل صلة توالد حتمي ينتج بعضها عن بعض، تماما كصلة الأجداد بالأبناء والأحفاد…ومن هنا فإن الوقوف على تاريخ الحركة الوطنية في تاريخ اليمن المعاصر القريب والبعيد، وفهم أسرارها، واستيعاب ملابساتها من الضرورة بمكان لتشخيص علل حاضرنا وإنتاج الحلول المناسبة لمشكلاته، فأين تقع ثورة الأحرار الدستورية 1948في تاريخ الحركة الوطنية في اليمن الحديث؟
إذا كانت الحركة الوطنية اليمنية المعاصرة قد نشأت في ثلاثينيات القرن الماضي في شكل حركة إصلاحية تستهدف إصلاح النظام الحاكم بالموعظة الحسنة، والنصح والإرشاد، واللوم والتحذير، فإنها تستحيل في منتصف الأربعينيات إلى حركة سياسية معارضة، تتبنى طريق الثورة، كخيار تمليه الضرورة للخروج باليمن من الواقع المميت، والعزلة الخانقة، والقهر الطاحن، والقمع الظالم، فاستطاعت أن تنهض بتفجير الثورة الدستورية في17 فبراير 1948م، فكانت بحق أول حدث ثوري يهز جزيرة العرب برمتها، ويوقظ ملايينها التي كانت غارقة في سبات الاستبداد، بما حمل ميثاقها المقدس من قيم شوروية، ومبادئ دستورية، تدعو إلى إلغاء “الاحتكار السياسي” للسلطة، وتجاوز مفهوم “الحق المطلق” للحاكم الذي ظل سائدا منذ بداية الحكم العضوض، وتأسيس حكم دستوري يشارك فيه الشعب صراحة، أما على المستوى الوطني والقومي فقد اختزلت الثورة الدستورية أهدافها في تحقيق السعادة للشعب، والعمل على تجاوز التشطير وصولا إلى تحقيق الوحدة اليمنية بين شطريه، والحفاظ على استقلاله، والكفاح من أجل تحقيق تحرير الجزء المستعمر منه، ولم ينس الأحرار في أهدافهم التأكيد على العمل من أجل تحقيق الاتحاد العربي تعبيرا عن إيمانهم بفكرة العروبة وإحساسهم الأصيل بأنهم جزء من الأمة العربية.
ولأن الرياح قد جاءت على غير ما تشتهي السفن، فقد انتصر ليل القوة الباطشة وثقافة الفيد على تباشير فجر الثورة، وثقافة الدستور، فسقطت الثورة الدستورية بعد ثلاثة أسابيع من قيامها، واستحالت الأحلام الجميلة إلى كوابيس مرعبة، وسيق الأحرار إلى مقاصل الموت وغياهب السجون، وعلى الرغم من هذه النهاية التراجيدية للثورة الدستورية وزعمائها، فإن ما لا شك فيه أنها قد استطاعت ــ رغم قصر ضوئها الزمني ــ أن تفتح بحسب الأستاذ زيد الوزير في جدار الليل الصلب مسارب للضوء واصل انتشاره وأطلت اليمن من خلاله على عوامل جديدة أثارت لديها تساؤلات عنيفة حول ماذا حدث؟ ولماذا حدث؟ وماذا بعد؟
على أن ما تجدر الإشارة إليه في مقامنا هذا هو أن الأهداف التي رفعتها النخبة المستنيرة من أحرار ثورة الدستور ما تزال في أغلبها هي الأهداف التي تطالب بها النخب السياسية اليوم رغم مرور ما يقارب من سبعين عاما، وهو أمر يكشف عن عدم إفادة الأنظمة السياسية التي تعاقبت على الحكم في اليمن من تراكم التجربة الثورية وصولا إلى إنجاز بناء الدولة المدنية الديمقراطية العادلة، دولة الدستور، والنظام والقانون، والتبادل السلمي للسلطة، فقد ظلت هذه الأنظمة ــ مع عظيم ما حققت من إنجازات كبيرة في مجالات شتى بعد قيام الجمهورية في سبتمبر 1962م، ــ تجتر من الماضي احتكار السلطة والثروة في يد الحاكم ومراكز النفوذ التي تحيط به، وتعيد إنتاجه بشكل أو بآخر على حساب الشعب بفئاته المختلفة، مع وجود بعض الاستثناءات في فترات محدودة.
ومن جهة أخرى فإن الموقف السلبي الذي وقفته الجامعة العربية من الثورة الدستورية هو اليوم الموقف السلبي نفسه ـ أو قل إنه أكثر سلبية وأشد سوءا تجاه ما يعانيه اليمن اليوم من عدوان جائر وحصار فاتك، كما أن الأنظمة العربية الرجعية التي لم تحتمل نجاح الثورة الدستورية خشية أن تصل تداعياتها إلى الكراسي التي يجلسون على عروشها، فتكالبت على الثورة، وسعت إلى إخماد نارها قبل أن تمتد وتصل إليها حتى علق مسئول لبناني على هذا الموقف قائلا”لو اتحد ملوك العرب في قضية فلسطين، كما اتفقوا ضد الأحرار في اليمن، ما كان في فلسطين حكومة يهودية”، هذه الأنظمة العربية هي نفسها التي تشكل تحالفا عدوانيا على اليمن، أنف قت فيه من المال، وحشدت فيه من الأسلحة بأنواعها ما يكفي لإزالة دولة لإسرائيل من الكرة الأرضية، وهو أمر يكشف عن جمود حركة التحول في مراكز النفوذ العربي، وسيطرة القوى الرجعية الاستبدادية على شبه الجزيرة العربية والمنطقة عموما.
على أن من الأمور التي تجدر الإشارة إليها في هذه الورقة هو أن الثورة الدستورية من أكثر الأحداث التاريخية التي يشوبها كثير من اللبس والغموض، في تاريخنا المعاصر، يقول الدكتور عبد العزيز المقالح: “من هذه الأمور التي تشابه علينا ــ نحن في اليمن ــ لونها، وتكاثرت من حولها التناقضات، وأصبحنا كأن لم يعد بمقدورنا حل أسرارها حركة 1948م، فقد تعددت الكتابات، وتباينت المواقف، وتداخلت التحفظات الحذرة بالشجاعة المرذولة، وصار كل حامل قلم يسعى إلى أن يكون له رأي في ما حدث، وأن يخترع من الأسباب التي أدت إلى فشلها ما يتنافى مع كل الوقائع المباشرة وغير المباشرة”.
وإذا كان هذا هو الحال مع الثورة الدستورية وما يحيط بها من أحداث وملابسات، بالنسبة لمعاصري رجال الثورة الدستورية، فإن حال جيلنا والأجيال اللاحقة لا شك أنه سيكون أكثر سوءا، ولعل الأستاذ محمد عبدالله الفسيل آخر رجال الثورة الدستورية قد شعر بذلك ونبه إلى خطورته في قوله: إن صورة النضال الوطني الذي خاضته طلائع الشعب المستنيرة، ضد ذلك الطغيان الشرس،… تكاد تكون الآن مجهولة لدى الأجيال الجديدة إلا من ملامح باهتة مما يجعل الشعور بوحدة النضال ووحدة التاريخ ضعيفة أو مهزوزة..، فإن قوة الشعور الواعي بهذه الصلات المتلاحمة يعمق شعور الأجيال المتعاقبة بالانتماء إلى وطن واحد، تأريخه واحد ومصيره واحد، ونضاله من أجل حياة أفضل واحد”.
ولا شك أن الكشف عن حقائق ثورة الدستور، وإماطة اللثام عن أسرارها، وإنصاف رجالاتها تحتاج إلى تضافر جهود علمية محضة لا يمكن بحال من الأحوال أن يقوم بها جهد فردي، وإنما يجب أن تنهض بها برامج الدراسات العليا بأقسام التاريخ في الجامعات اليمنية ومراكز الأبحاث العلمية، التي يجب أن تخصص لها مؤتمرات علمية يشارك فيها الباحثون بقراءات موضوعية تستند إلى معطيات الأحداث والوقائع وليس الشائعات والإشاعات، وتراعي في نتائجها الأمانة العلمية والدقة الموضوعية بعيدا عن التأثيرات المزاجية التي تفرضها العصبية والمناطقية والمذهبية ومؤثرات السلطة التي ترسمها طبيعة النظام الحاكم.