الأسير والكلاب!
بقلم د/ مصباح الهمداني
في ليلة من الليالي.. كان ولي العهد يلعبُ مع كلابه، وبعدَ أن استعاد كامل وعيه، قام بعدِّها فوجدها ستة، فصاحَ بالخدم والحراس، وسألهم عن كلبه السابع، فتبادلوا النظرات الخائفة، وقلبوا أيديهم المرتعشة، فأمسكَ بعصاه، وانهالَ عليهم بخيزرانته ضربًا، وبعدَ أن حشرهم في إحدى زوايا الصالة، صاحَ بهم؛
– سأمتد على سريري، وتحضرون الكلب الآن، وإلاَّ فليلتكم سوداء، ولن تروا شمس الغد..
انطلقَ الحراس والخدم في كل أرجاء القصر، يبحثون بسرعة وهمةٍ عالية، ولكنهم لم يجدوا له أثرا، خرجتِ الدوريات الراجلة والراكبة تمشط المحيط، ولكن النتيجة مخيبة.. أبلغت غرفة العمليات بالأمر وتم إغلاق تسعة شوارع رئيسية، وخرجت الكتائب لتقوم بطوق بشري حول القصر على بعد كيلومترات، وتوقفت السيارات، وتساءل الناس بهمس، وبدأت الشائعات تسري في كل مكان، بحكايات لا تمت للحقيقة بصلة، وبدأ الجنود يمشطون الأحياء ويفتشون السيارات، وقبل انبلاج الفجر كان كلب ولي العهد قد أفاق من سكرته العميقة، بعد أن شرب من وعاءٍ مملوء بشرابٍ ذو طعمٍ سكري، وبدأ بالنباح من تحت سرير ولي العهد..
عادت الوحدات إلى ثكناتها، وانبلج الصباح بالخبر السعيد، واستمر الشعب البائس في ترديد الإشاعات…
وقصة أخرى يرويها أحد العارفين ببواطن القصور؛ تحكي أن أحد الشيوخ ذهب إلى المغرب العربي بكلابه وصقوره، وحينما أطلق كلبه ليطارد أرنب، غاص الكلب في الصحراء، واختفى عن الأنظار، ولم تستطع السيارات اللحاق به أو البحث عنه، فركب طائرته المروحية كالمجنون، وهو كما تقول الحكاية يبكي بشدة، ويترنح من كثرة الأكل والشراب، فساق الطائرة بتهور، وأخذ يمشط الصحراء باحثًا عن كلبه الضائع، حتى أرهق الطائرة بسياقته المتهورة، فسقطت به، ولقي حتفه، ومات من أجل كلب..
ولأن كلبي الأمير والشيخ لا يشبهان المقاتل الأسير..
فقد كتبت عنه موضوع تحت عنوان “مناشدات كسير” وظننت أن المملكة ستستحي على نفسها، وتخجل من محيطها، وتشفق لأسيرها المريض، ولأسرته المنكوبة.. لكن شيئًا لم يحدث، فقد جمعت أسرة بني سعود كل المناشدات، والنداءات، والاتصالات، والتوصيات، ورمت بها في سلة المهملات…
تخلى بني سعود عن أسراهم كما تتخلى طيور الوقواق عن أولادها…
كان موسى يصارع المرض، ويضع كفيه على بطنه صباحًا ومساء، وينظر في المرآة كل يوم؛ ليشاهِد وجهه الشاحب، وعينيه الصفراوان، وفي كل مرة يسأل مرافقيه؛ هل وافقت المملكة على التبادل.. فيأتيه الجواب الصادمُ بالنفي…
يتصل موسى بأهله، فيخبرونه بأن أبواب الأمراء موصدة، وشبابيكهم مغلقة، ولا يستطيع الوصول إليهم أحد..
فيرد عليهم موسى بعينين باكيتين ولسانٍ مثقل ويؤكد لهم بأن أنصار الله قد أبلغوا الصليب الأحمر وجميع المنظمات العاملة بحالته، وقد أوصلوا قصته وخبره ومرضه إلى السلطات السعودية.. فيردد أهله ومن حولهم “حسبنا الله ونعم الوكيل”، ويأتيه صوتٌ شجي يقول له:
– اهتم بأكلك يا موسى حتى يفرجها الله.
فيجيبهم موسى:
– كل شيء حولي من الرمان الصعدي إلى التفاح إلى الموز إلى الزبيب بأنواعه، وكذلك اللوز والتمر وأما الأكل فقد أكلت كل أنواع الأكلات اليمنية من بنت الصحن إلى الهريش والعصيد والسلتة والشفوت والزوم وشربت المرق وأكلت أنواع اللحوم من الضأن إلى التيوس والجمال والبقر.. لقد أكرموني بكل ما في أيديهم من طعام وفواكه، ولكني بحاجة لعملية لا تتوفر لديهم..
فيتردد جواب أهله:
– بارك الله في اليمن.. وحسبنا الله ونعم الوكيل فيمن قذفوا بكم ونسوكم..
موسى ومثله العشرات أو المئات من جنود بني سعود؛ قاتلوا في الحد الجنوبي وأسروا في المعركة.. فنسيهم الملك، وولي عهده، وقادتهم، وأركان حربهم، وضباطهم.. وكأنما هم فئران تجارب اختفت بين دواليب إحدى المعامل..
وفيما تخلى بنو سعود عن أسراهم، كان حفيد المصطفى، وكريم الأخلاق والمحيا؛ يتفقد الأسرى ويسأل عن أحوالهم، ويوصي بهم، ولم ينشغل عنهم بكثرة أعماله…
وقفَ القائِد على حالة موسى، وتابع رحلة المفاوضات والمناشدات، ونظر إلى الأسير بعين الرحمة، وقلب الشفقة، وروح الإنسانية؛ ووجه بإطلاق سراحه، وإعتاق رقبته، وعودته إلى بلاده، وشراء ما يحتاجه، وإكرامه بقدر المستطاع…
وصلتِ البشارة إلى موسى، ودمعت عيناه، وشكر القائد وأثنى عليه بقلبه قبل لسانه.. ولكنها خطرت له خاطرة، وظهرت أمام عينيه بائقة، وسأل نفسه والحاضرين:
-هل أخبرتم المملكة بمكرمة السيد بالإفراج عني كحالة إنسانية وبلا مقابل؟
وجاءه الجواب:
-نعم ولكنهم تجاهلوا أمرك ولم يكلفوا أنفسهم حتى بإرسال طائرة..
دمعت عيناه ثانيةً وقال بصوت مسموع:
-فكيف سيستقبلونني؟.. أم أن مصيري سيكون كمصير جمال خاشقجي.
ضحك الجميع.. ومسحوا على رأسه، وطمأنوه، وطلبوا منه التفاؤل.. وصعد موسى طائرة الصليب الأحمر، وقبل أن ينغمس في جوف الطائرة، لوَّح بيديه ليقول للقائد العلَمْ: شكرًا يا حفيدَ من أسقى قاتله اللبن.. شكرًا يا حفيد من سقى الماء للجيش الذي حاربه.. شكرًا يا صانع الأخلاق.. ومتمم ما بدأه جده..
شكرًا يا أهل اليمن.. شكرًا يا أحفاد الأنصار.. شكرًا يا رجال الحرب والكرم..
شكرًا يا أساتذة العطاء والوفاء..
جئناكم محاربين وما إن أسرتمونا حتى أصبحنا لكم أهلاً وجعلتم منا ضيوفًا، وعاملتمونا كأننا منكم وفيكم…
فسلام الله عليكم وعلى قائدكم وعلى كل رجال اليمن الشرفاء…
غادر موسى وفي قصته ألف عبرة وعبرة لمملكةٍ أصبحت فيها الكلاب أهم وأغلى من البشر.