الخبر وما وراء الخبر

أحداث 86.. عواملُها وانعكاساتُها على الوضع الراهن والدروس المستفادة

37

ذمار نيوز | المسيرة: أنس القاضي 10 جماد أول 1440هـ الموافق 16 يناير، 2019م

معظمُ أزمات الوضع الراهن في وطننا اليمن هي نتائجُ وانعكاساتٌ لأحداث وقعت في العقود الماضية، فمعضلاتُ اليوم امتدادٌ تراكمي لما سبق، ومن غير الوضوح العلمي ولا السياسيّ تحليل الأوضاع القائمة اليوم بمعزل عن السياق التاريخي الذي تخلقت فيه، وأحداث 13 يناير 1986م المأساوية هي محطة مؤثرة في مستقبل الشعب والوطن اليمني إلى اليوم رغم وقوعها قبل أَكْثَــر من ثلاثة عقود في الشطر الجنوبي، وقبل إعادة تحقيق الوحدة اليمنية 1990م.

إنَّ إعادةَ قراءة أحداث 86 اليوم ضرورية لمعرفة جذور عقد الواقع الراهن، ومن المهم أن تتم بطريقة علمية بعيداً عن الروايات السياسيّة التي حملها المهزوم والمنتصر في تلك الأحداث المؤسفة، وقد كان الحزب الاشتراكي اليمني شجاعاً حين أصدر بعد أحداث 86 وثيقة نقدية تحليلية لتجربة الثورة في الجنوب اليمني (ج. ي. د. ش) ورغم أن هذه الوثيقة أعدها الطرف المنتصر في الحزب، إلا أنها كانت تحمل قدراً كبيراً من العلمية والمسؤولية النقدية، وكان النظام الحاكم في الجنوب بعد 1986 قد بدأ يتجه إلى إصلاح ما يُمكن إصلاحُه من الأخطاء التي رافقت التجربة والتوجه نحو حلحلة العقد التي أوصلت الشطر الجنوبي من الوطن إلى تلك المأساة، إلا أن مجيء الوحدة اليمنية وفشل الفترة الانتقالية من عام 90 حتى 93 وصولاً إلى حرب 94.

كُــــلُّ هذه الأحداث أعاقت عمليةَ الإصلاح وإضافة إلى ذلك فإن السلطة المنتصرة في حرب صيف 94 أوغلت في نكئ جروح أحداث 86، وتوجهت نحو تعزيز الانقسامات والمظلوميات في الجنوب بشكل كبير كجزء من استراتيجيتها في حكم الوطن اليمني ككل بالأزمات والتفرقة والقمع والاستبداد.

هل كان هناك تجربةٌ اشتراكية في الجنوب؟

رغم رفع الحزب الاشتراكي اليمني وبشكل رئيسي فصيل الجبهة القومية فيه، الشِّعاراتِ القوميةَ ثم الأممية، إلا أنه عجزَ عن تجاوز الانقسامات الاجتماعية المناطقية وتلك التي تعود إلى زمن السلطنات، ولم يكن يعزو الحزب الحاكم الإرادة السياسيّة والتوجه الصادق نحو تجاوز هذه الانقسامات، إلا أن الحزب عجز عن تحقيق تحول اجتماعي ينفي ويتجاوز المرحلة السابقة فيتجاوز الهويات المناطقية والعصبيات دون الوطنية، والسبب الرئيسي يعود إلى ضيق قاعدة الإنْتَاج فرغم أن الاشتراكي رفع شِعار الاشتراكية ونمط الإنْتَاج الاشتراكي وقام بإجراءات اشتراكية (مشوهة) كالتأميم والإصلاح الزراعي وغيرها محاكاة للأنظمة الاشتراكية، إلا أنه في الواقع لم تبنِ تجربةً اشتراكية في جنوب اليمن، فمن المستحيل أن توجد اشتراكيةٌ دون صناعة، ولا أن ينتصر الإنْتَاج الاشتراكي وهو متخلف عن الإنْتَاج الرأسمالي، إنما ما تحقق في “جمهورية اليمن الديمقراطية” وهو أمرٌ تقدمي، كانت إقامة دولة رعاية اجتماعية تكفلت بالحقوق الاقتصادية الاجتماعية لشعبها وخدمات التطبيب والتعليم وغيرها، ولكن القطاع الصناعي فيها كان هو الأضعف.

إنَّ عدمَ حدوث تحوّل اجتماعي ونقلة في علاقات الإنْتَاج الاقتصادية، جعل الدولة في بُنيتها الفوقية السياسيّة هي التي تؤمّن الخيرات المادية للمجتمع عن طريق دعمها لخدمات والسلع، ولم يكن المجتمع في ذاته هو من يؤمّن هذه الخيرات ويصل في إنْتَاجها إلى مرحلة الاكتفاء والرفاه، وأخطاء تجربة التأميم والإصلاح الزراعي (التي طبقت بشكل متطرف مع بعض الأخطاء) كان لها دورٌ في كبح تطور الإنْتَاج وقتل حافز الربح والمنافسة، وكان موقف الاتّحاد الشعبي الديمقراطي هو الأَكْثَــر صوابيةً من خلال ملاحظاته على تجربة التأميم والإصلاح الزراعي، هذا الأمر -أي عدم تطور قوى الإنْتَاج في البنية التحتية- انعكس في البُنية السياسيّة إلى بروز مظاهر الفساد والمناطقية، حيث أن كُــــلّ قوى اجتماعية ريفية محيطة بعدن كانت تدعم ائتلافاً مناطقياً داخل الحزب والدولة من أجل أن يحقق هذا الائتلاف المناطقي لهذه المناطق الخدمات ويعطي أبناءها الوظائفَ في القطاعات المدنية والعسكريّة، وهذا هو السبب الرئيسيُّ لتخلق العصبية المناطقية في الحزب والدولة الجنوبية وسببه -كما قلنا- ضيق قاعدة الإنْتَاج وعجز الدولة عن تحمل نفقاتها كدولة رعاية اجتماعية وتوزيعها على كُــــلّ الأطراف.

هل كانت اليمن الديمقراطية الشعبيّة دولة ديمقراطية؟

قام النظامُ في الجنوب على قاعدة نظام الحزب الواحد ومفهوم الديمقراطية الشعبيّة “دكتاتورية البروليتاريا”، وإذا كانت النظرية في دكتاتورية البروليتاريا تفترضُ تفوُّقَ الطبقة العاملة اجتماعياً، وتقيم سلطتها بالتحالف مع الفلاحين الفقراء، بقيادة حزبها الشيوعي، إلا أن ما حدث في الجنوب لم يكن كذلك، فرفعُ شعار الديمقراطية الشَّعبية في واقع ضعف وهزالة ولا تنظيم الطبقة العاملة كان يعني فعلياً بأن البيروقراطيين الحزبيين هم من يقودون الدولةَ لا الطبقة العاملة، وبمزاجيتهم وتحليلاتهم لا وفق رؤية مصالح الطبقة العاملة المنعكسة من الواقع الموضوعي.

لم تكن مشكلةُ الديمقراطية في الجنوب اليمني فقط مشكلةَ الحزب الواحد الحاكم، بل إضافةً إليها مشكلة أن “الحزب الواحد” عملياً ليس حزباً واحداً! فقد كان فيه أَكْثَــرُ من تيار سياسيّ: قومي، وماوي، واستاليني، وبعثي، وماركسي، وليبرالي، أي أن الحزبَ كان ائتلافاً سياسيّاً لا حزباً موحداً متجانساً، وهذا التعدد الذي لم يكن منظماً في إطار وحدة ديمقراطية، فذلك التعددُ المضطرب أعاق حركةَ الحزب ونشاطه وحرمه الرؤية وأعاق تطوره ووضوحه.

إنَّ انعدامَ الديمقراطية في جنوب الوطن، جعل التياراتِ الحزبيةَ المتعددة لتعدد الطبقات الاجتماعية، تتنافس على رؤاها ومواقفها ومصالحها، داخل الحزب، وجعل الحزب هو الأداة الوحيدة للتعبير عن سياساتها، مما نقل صراع السلطة والمعارضة إلى داخل الحزب الحاكم ذاته، وأجهزة الدولة السياسيّة والعسكريّة، وأخذ هذا الصراعُ السياسيّ المتحزبُ شكلاً مناطقياً، حيث وقفت الجِهَويات المناطقية داعمة للتوجهات السياسيّة، وصولاً إلى لحظة الانفجار.

أما المنظماتُ الجماهيرية من نقابات واتّحادات ومنظمات فقد كانت تفتقر للاستقلالية وتُلحَق بالحزب، فتعبر عن وجهة نظر الحزب وتياراته وتتلقاها، فيما كان يُفترض أن تعبر عن مصالح الفئات الاجتماعية والشرائح المنضوية فيها (العمال، الفلاحين، الشباب، النساء، الشبيبة، الطلائع) وتوصلها إلى الحزب والدولة.

وكان الشهيدُ جار الله عمر قد تنبه إلى مثل هذه المشكلة من قبل وقوع أحداث 86م، وعرض على الحزب هذه المشكلة، ودعا إلى الديمقراطية والتعددية السياسيّة في إطار التعددية الثورية، أي ديمقراطية وتعددية داخل ذات القوى الوطنية التي شاركت في صناعة ثورة 14 أكتوبر، وقد كانت دعوةُ جار الله سابقة لدعوة غورباتشوف للإصلاح الديمقراطي داخل الأحزاب الاشتراكية، وللأسف لم يستجبْ أحدٌ آنذاك لصوت جار الله عمر، وقد اعترف الحزبُ لاحقاً بعد وقوع المأساة بأن رأي جار الله عمر كان صائباً.

انعكاساتُ أحداث 86 على واقع اليوم

تفجُّرُ حرب 86 أيقَظَ كُــــلَّ التناقضات الاجتماعية والسياسيّة التي كانت تغطيها دولة الرعاية الاجتماعية، والوحدة الحزبية الهشة، إلا أن انقسامَ الحزب ونفي عبدِالفتاح إسماعيل إلى موسكو في 1982 وعودته بعد ذلك والاختلاف على نتائج الانتخابات الحزبية، بل وعدم الإقرار بها أدّى إلى تفجر الحرب يوم الاجتماع الحزبي المنتظر، هذا الانقسام الحزبي الذي سبق الحرب كان قد فضح الانقساماتِ الاجتماعية السياسيّة قبل انفجارها عسكريّاً في ذلك اليوم الأسود، ومثلت حرب صيف 94 الضربةَ الثانيةَ التي أعادت فتح الجرح مجدداً وتعزيز الانقسامات، عن طريق تحالف نظام صالح والإخوان مع أحد أطرف صراع 86 “الزُّمرة” وإقصاء الطرف الآخر “الطّغمة” من الوظائف المدنية والعسكريّة والملكيات الخَاصَّـــة، وفرض جهوية شمالية على الجنوب عموماً، فهذا النهج الذي اتبعه صالح والإخوان عزّز من الانقسام الاجتماعي السابق، كما أن النهج الاقتصادي الاجتماعي الذي اتبعته سلطة حرب 94 دمّر ما تبقى من آثار دولة الرعاية الاجتماعية التي نجت من أحداث 86 م، فأدى إلى ازدياد الإفقار وتمزيق الوشائج الاجتماعية في الجنوب وكذلك الوشائج الاجتماعية في الشمال، وصنع جهوية شمالية جنوبية.

اندلاع الحرب العدوانية في اليمن في مارس 2015م أظهرت كُــــلَّ هذا التعفُّن الذي كان يجري في المجتمع اليمني، مما جعل الهُوية الوطنية اليمنية والوحدة الاجتماعية اليمنية أضعفَ من القدرة على مواجهة عدوان تحالف دولي، بل إن تحالفَ العدوان قام بتوظيف الانقسامات الاجتماعية في الجنوب لخدمة أطماعه، فمثّل الجنوبُ اليمني خاصرةَ الوطن الضعيفة التي استطاع العدوانُ اختراقَها واحتلالها. فمن جهةٍ كان هناك موقفٌ جنوبي ضد الشمال رحّب بالعدوان؛ لأَنَّه سيخلصه من “شر شمالي” متوهم، وعلى صعيد الجنوب ذاته، أخذت السعوديّة وهادي بأحد أطراف الانقسام القديم وأجزائه (الزُّمرة)، فيما أخذت الإمارات بعض أجزاء الطرف الثاني للانقسام (الطُغمة)، ويستمر الاستقطاب السعوديّ الإماراتي في تمزيق الوشائج الاجتماعية في جنوب الوطن، واستخدام هذه العصبيات كوقود في عدوانهم على اليمن.

الدروس المستفادة

من إعادة النظر في حرب 86 والأسباب التي أدّت إليها، يُمكننا القول بأن الحَلَّ لمستقبل اليمن، يكمُنُ في تجاوز تراكمات الماضي وإصلاح أخطائه والبناء على إيجابيات “جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبيّة” فإيجابياتُها: دولة الرعاية الاجتماعية، وسيادة القانون، والسيادة الوطنية، والموقف القومي والأممي المناهض للإمبريالية والصهيونية، وأما إصلاح الأخطاء فهو أن تكون دولة الرعاية الاجتماعية (ذات سيادة القطاع العام) قائمة على أساس الإنْتَاج وحماية الملكية الخَاصَّـــة.

وفي الجانب الديمقراطي: فلا بد من الاقتناع بالتعددية السياسيّة وترك الفضاء الحر لها (المقيد دستورياً) ليتم التنافس سلمياً وتعبّر كُــــلّ الطبقات الاجتماعية والتوجهات الثقافية عن آرائها ومواقفها ومصالحها بكل حرية وسلمية، فدولة المواطنة المتساوية القائمة على هذه الأسس والمنحازة اجتماعياً هي القادرة على رعاية الشعب وتقدمه وتفتحه وتطوره ليعودَ سعيداً.

*مركز الدراسات السياسيّة والاستراتيجية اليمني