الخبر وما وراء الخبر

يعانون في صمت

46

بقلم | حسين الجنيد

رسائل من بلاد الحرب المنسية (2)

يبتسم الضوء باهتاً.. على سطور مدينة سام..

فالحرب التي باتت مألوفة بدراماتيكيتها في نشرات الأخبار.. لم يعد يكترث بآلامها المختبئة في تفاصيلها أي أحد.. خصوصاً تلك المؤسسات التي هدف نشأتها حماية الضحايا والدفاع عنهم.

وبين هذه الأزقة تشاهد العين أبناء هذا البلد المتعب، كقطراتٍ متناثرةٍ من المأساة، ومن البحث عن الحياة أمام الخزانات الفارغة.

لكنهم يدركون أن الكرامة والحرية ثمنها باهظ، وتستحق التشبث بالصبر إيماناٍ بمن زرعها في نفوسهم.

هذه صنعاء البعيدة بأوجاعها عن العيون والقلوب، وهذا بعضٌ من وجعها المختبئ في جنبات أحد أحيائها القديمة.

بلاغة المآقي النازحة من جحيم الحرب، امتزجت بوعورة التجاعيد وأوجاع المشيب.

الحاج أبو راوية، لم تكن الحرب أول مآسيه – وإن كانت – السبب الأخير الذي أجبره على النزوح من قريته في ريف حجة.

تشاركه رفيقة دربه – الطيبة – الحياة بصبر، ولازالت تبتسم إلى جواره بملامحٍ وجهها العفوية.

تحاول زوجة الحاج أبو راوية الحفاظ على وجهها البشوش؛ لعلها تستطيع ارهاق الألم المتّشح بعينيها – التي تقاوم الذبول – بفقدان أولادها الاثنين.

فالأسرة التي فاوض ربُها الفقرَ بمهارةٍ طيلة عقود حياته، أبت الحربُ إلا أن تقهر لحيته البيضاءَ، بالنزوح الى صنعاء مع من تمرد من أسرته على مرارة ضجيج الغارات.. حين أجهزت الطائرات بصواريخها على بيوتهم.

أسرة الحاج أبو راوية.. أجبرتهم الحرب على النزوح من أرياف محافظة حجة شمال اليمن.. حيث كانت البراري في البادية ملكاً لأحلامهم وروحهم الطليقة في أرجائها.. ليحبِسوا بقايا أنفاسهم في سردابٍ تسخر منه مقاسات المسطرة.. بل وتسخر منها الجحور وزنازين السجون.

على جدران غرفتهم هذه المظلمة يتوزع شظف العيش.. كديكورٍ من الأواني وما تخفيه هذه الأكياس؛ لتوفر مساحةً من الأرض تكفي كمرقدٍ للساكنين فيها.

حتى حقيبة المدرسة – رغم نحافتها – تشكل عبء مساحةٍ تضطرها لأن تتكيف مع موقد الخبز المستعار.. ومع ذلك، فكل ما تراه العين لم يكن ليوجد لولا فاعلي الخير.. حتى الضوء البسيط.

كموثّقين لهذه المأساة، علينا أن نرسم علامات الأمل ونخفي عواطفنا. فرغم هذا البؤس.. يولد مستقبلٌ بريء.. ولا مجال للسخط أمام هذا الجمال المولود.. فهو ليس معنياً بالحرب الذي يدفع أهلُه ثمنها دون ذنب.

استضافت الاسرة النازحة ضيفها الصغير قبل أيام.. فكانت حكاية هذه الأم المرضعة تسيطر على إحساسنا.. وبالتأكيد أنها ستكون وخزاً يستنجد ضمير من رأى ومن سيشاهد.. وسيسمع.

وهنا نجد أنفسنا أمام تقاطعٍ لحكاياتٍ أخرى من رحم هذه الأسرة عند كل فرد فيها.

وعلينا أن نكون حريصين قدر الإمكان على أن نوازن بين حاجتنا في الإضاءة للتصوير، وحاجة هذه الأسرة للستر وإبقاءَ الستارَ مغلقاً على المصدر الوحيد للضوء من الباب المطل على العابرين في الشارع.

(أم علي) ربما تكون العمود الذي يتكئ عليه والداها ودينامو الحياةِ الباقيةِ لهم.. قد تكون مأساتها – بفقدان زوجها – وجعاً على مستقبل طفليها.. لكنها كانت بطريقة أخرى تتجاوز شيخوخة والديها بجهدها في خدمة العائلة.

تتقاطع قصة زوجها مع قصة أختها الضعيفة بوضع الولادة، فقصة فقدان زوجها قبل سنوات في المهجر دون هوية.. تتشابه إلى حدٍ ما مع قصة اختفاء زوج أختها قبل أشهر.. على الاقل تشبهها في البحث عن لقمة العيش حتى لو كان هروباً إلى المجهول بحسب الافتراضات.

كان علينا أن نستمع.. بينما تدور تفاصيل الحياة أمام أعيننا.. بمائدة الطعام المحصورة بأقراص الخبز دون غيرها، والتي شاهدنا مراحل إعدادها.. وما تجود به نفوس الطيبين من الجيران.

ألقت الحربُ بحمل النزوح الثقيل على أسرة الحاج علي ابو راوية.. لكن أثقال المرض الذي عانى منه هذا الشيخ المسن قد سبقت الحرب.. لتزيد من معاناته في زمن النزوح.

هي الحرب التي أرهقت المعتدين دون أن ترهق عزم شعب اليمن، ومع كل ما تعانيه وتتجرّع أساه، تؤكد لنا هذه الأسرة أنها ستعيش هانئةً بالكرامة والعزة في زمن الحصار رغم جبروت وطغيان المعتدين.