الخبر وما وراء الخبر

“وحدها من تصنع رجالاً”

64

بقلم|| زينب الشهاري

كانت تتأمله في إعجاب، لا تدري كيف تغيرت ملامحه في عيونها وهو الذي فارقها لمدة وجيزة فقط، كانت تتوج محياه هالة من الوقار على غير العادة وعينيه تنطق بكل معاني السكينة، وهو الذي طالما كان في نظرها ذلك الصغير المدلل رغم تجاوزه الرابعة والعشرين، كانت تبالغ في الخوف عليه، تعد له مايشتهي من الطعام وتأنبه كثيراً إن تأخر عن البيت ولو بضع دقائق، كان لا يزال في نظرها ذلك الشقي المدلل، وحين رغب أن يدرس في إحدى الجامعات الأهلية غالية الثمن باعت عن طواعية ما كانت تحتفظ به من مجوهرات لتلبي رغبته، كثيرا ماكانت تصرفاته التي تصفها بالطائشة مصدر قلق لها، تخاف عليه من جلساء السوء وتتعمد سرد وصاياها التي كان يتذمر كلما ألقتها على مسامعه، قائلا لها في ضجر : لم أعد ذلك الصغير يا أماه فأنا أعرف جيدا مصلحتي فلا تعامليني كطفل، وكانت دائما ما ترد عليه في حنان: لن يهدأ لي بال إلا عندما تتزوج وأرى أطفالك يلعبون من حولي، فيبتسم لها ويطبع على جبينها ويديها قبلاته المعبرة عن وارف محبته لها.

لم يكن قبلها يأبه لقصف، لضحايا أو لغارات، كان جل اهتمامه منصب على نفسه وحياته الخاصة، هي كذلك كان جل اهتمامها هو ابنها والمخاوف والهواجس عليه وعلى مستقبله وحياته، لكنها وهي تتأمله اليوم كأنما تراه لأول مرة.

لم يمض وقت طويل حينما غادرها إلى تلك الوجهة، هاهو اليوم يأتيها بعد غياب، ظل عندها أسبوع في نية إلى العودة لوجهته مجددا، كانت تتأمل في انبهار تصرفاته التي تنم عن رجل على قدر كبير من تحمل المسؤولية و رجولة لم تعهدها في ابنها المدلل، لاحظت كيف أصبح قلبه معلقا بالذكر والقرآن والصلاة، كيف أصبح حديثه هادئا، موزونا تزينه عبارات الجهاد والوطن، جميلة تلك اللحظات التي كان يسرد فيها لها عن جمال وقت البكرة والأصيل وتسبيح المجاهدين وعن أيامهم في الجبهات، عن الإيثار، عن التضحيات، عن شدة البأس، عن دحر الأعداء، عن مفارقة إخوة لهم و سبقهم نحو الشهادة وشوقهم لملاقاتهم ونيل ما نالوه من الفضل، عن الألطاف والمعية الإلهية، عن الانتصارات العظيمة، عن طعم الحياة التي استساغها بالقرب من الله، كانت كلماته تطرق شغاف روحها وكأنها بلسم وضع على قلبها ليمحو عنه القلق والكدر، كانت تتأمل ذلك البريق الذي يزين مقلتيه وذلك النور الذي يخرج من شفتيه وتلك الشجاعة والقوة التي تنطق بها جوارحه، لم تشعر بطمأنينة تملأ كيانها كما هي اليوم، ها هي تشاهد ابنها يمتلأ إيمانا وشجاعة ورجولة كما كانت تتمنى.

مضت الفترة وحان موعد العودة، أدركت أنها الجبهات وحدها من تصنع رجالا وتبني وطنا، أدركت أنها وحدها الجبهات من تستطيع الاطمئنان على ابنها فيها، وحدها الجبهات من تستطيع تحمل فراق ابنها فيها وإن طال النوى، هناك يناجي ربه، هناك يطيعه، هناك يلتقي الرفقة الصالحة، وهناك يضيء القرآن والذكر ساعاته، هناك يلقى من الشدائد والصعاب ما يقوي عزيمته ويصنع رجولته وبأسه، وهناك فقط قد يظفر بأغلى وسام ويصل إلى أفضل حياة.

رتبت ملابسه ووضعت مصحفه في عناية، وضعت في حقيبته ما صنعت من كعك له ولرفقائه المجاهدين، رأته وهو يتوشح بندقيته في شموخ ويرتدي بذلته العسكرية في بهاء، طالعته بنظرات الفخر والإعجاب، ودعها وقبل رأسها ويديها وطلب منها المسامحة وودعته بزخات من دعائها المليء بالحب والحنان، تأملته وهو يغادر نحو ساحات الكرامة والشرف والبطولة تملأها النشوة والزهو بأن ابنها من صناع الانتصار لهذا الوطن، مرددة في نفسها: مع الله أيها المجاهد البطل، مع الله ياولدي الغالي