الخبر وما وراء الخبر

معالم النظام الإقليمي الذي تريده أمريكا

46

بقلم / إيهاب شوقي

قد تكون أصعب اللحظات التي تمر بها الأمم هي لحظات التشتت وفقدان البوصلة والضباب الذي يحول دون استكشاف القادم القريب.

وقد تكون هذه اللحظات ربما أصعب من لحظات المحنة والخطر والحروب، حيث في لحظات الأزمة يعرف كل طرف تكليفه وفقا لموقعه وانحيازاته، بينما في لحظات الفتن والضباب، يحدث الارتباك والذي قد ينتج عنه شلل الحركة وفقدان القدرة على التصرف.

والأمة والمنطقة بشكل عام تمر بلحظة شبيهة بالتشتت والضبابية وهو ما أصاب شعوبها بما يشبه الشلل.

وكي نصل لحل وبديل مقترح ينبغي أولا الاطلاع على تحليلات رصينة لوضع الأمة وتوصيف حالتها، ثم الاطلاع على نموذج صارخ لما يراد لها، ومنه ننتقل لاقتراح البديل.

أولا: تحليلات الوضع الراهن، استفاض الكثير في الإدلاء بها، ومنها الغث ومنها الثمين، ولعل المجال هنا يناسب عرض تحليلات غربية، لتميز هذا النوع من التحليلات بميزتين هامتين، الأولى أنها دقيقة وعلمية، والثانية أنها تكشف ما بين سطورها نوايا الغرب أو مقترحاته وبدائله التي تلائم مصالحه، ومن متابعة صحفية لمراكز الدراسات والإصدارات الحديثة فإننا يمكننا رصد فحوى هذه التحليلات في عدة نقاط:

1/ هناك نوع من الشغف والترقب لشكل الشرق الأوسط الجديد، حيث تلفت مقاربة محيرة الى أن النظام القديم ما قبل انتفاضات (الربيع العربي) من المحال عودته، وكذلك الشكل الليبرالي الغربي وبعد تفاعلات “الربيع العربي” والتي ألقت عليه بالشبهات، من الصعب ولادته سيطرته ليصبح هو النظام الجديد.

2/ هناك محاولات راهنة لتشكيل أنظمة تخلط بين النظامين، أي الاستبداء ذي المسحة الإصلاحية، مثل الرؤى التي يتحدث عنها ابن سلمان وأصدائها في دول أخرى لكي تصبح شكلا جديدا تسيطر من أعلى لأسفل بادعاءات إصلاحية تلاقي قبول الغرب!

3/ افتقاد الثقة في جميع الايدلوجيات والرموز باعتبارها لم تحقق شيئا، فلا القومية ولا اليسارية وغيرهما حقق شيئا، والفجوة تستمر في عصر التكنولوجيا بين الواقع والمأمول، ويلاحظ أن الغرب يدعم ويلح على هذه النقطة تحديدا ليصبح تشكيل النظام الجديد متوافقا مع مصالحه دون أي ايدلوجيات تتعارض مع هذه المصالح.

ثانيا: النموذج، وهنا نجد أن نموذج محمد بن سلمان، هو النموذج الصارخ والذي يريده الغرب لمستقبل المنطقة، حيث الاستبداد والسيطرة على جميع المفاصل وتطويعها لخدمة أجندة امريكا والصهاينة والغرب، مع “مسحة” اصلاحية ليبرالية لترويج النموذج وتسويغ شرعيته.

بالطبع محمد بن سلمان كشخص ربما يتجه بعد الحادث الأخير لفقدان مستقبله السياسي بسبب سياساته في اليمن وقطر ومؤخرا جريمة القنصلية بحق الكاتب جمال خاشقجي والتي لن يستطيع محو تداعياتها حتى لو أفلت من عقابها قانونيا عبر كبش للفداء، ولكننا هنا نتحدث عن نموذج يراد له ان يعمم في النظام الإقليمي ويصبح ملمحا للشرق الأوسط الجديد، وملخصه:

نظام خال من الايدولوجيا ومتوافق مع المصالح الاقتصادية للغرب وضامن لأمن الكيان الصهيوني، وبالتأكيد قوي بالداخل يستطيع قمع اي معارضة أيديولوجية، أو حتى اي معارضة لتوجه النظام المتماشي مع مصالح الغرب.

وقبل الحديث عن البدائل، يجدر هنا ذكر توصيات ريتشارد ن. هاس رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأمريكية بخصوص قضية خاشقجي والقناعة الامريكية بتورط ابن سلمان بها، حيث تكشف التوصيات الأعمدة التي يرتكز عليها الغرب في دعم الأنظمة الجديدة وبالتالي هدمها عند حدوث خلاف كالخلاف الأخير، وجاءت توصيات ريتشارد كما يلي نصا: سيكون من الحكمة التمييز بين السعودية و MbS (محمد بن سلمان)، هذا من شأنه أن يوقف أي احتضان غير مشروط. يجب ألا تكون هناك دعوات إلى البيت الأبيض أو داوننج ستريت. يجب على الرؤساء التنفيذيين والمساهمين والعاملين إعادة النظر في الشراكة مع الحكومة في الرياض طالما أن نظام MbS هو المسؤول. يجب أن يضع الكونغرس الأمريكي قيودًا على استخدام المعدات العسكرية والمخابرات التي تزودها الولايات المتحدة. وهي خطوة تأخرت كثيراً في حالة الحرب المضللة في اليمن، لكن تأخرها أفضل من عدمها. يجب على الحكومات الضغط علناً من أجل إجراء تحقيق مستقل وغير مقيد لما حدث في إسطنبول”. انتهى كلام ريتشارد.

ومن كلامه نرى أن الاستضافة في البيت الأبيض وداوننج ستريت ومجتمع الأعمال هي الشرعية الأمريكية للأنظمة الجديدة، كذلك الدعم بالسلاح لحروب عدوانية ظالمة تنطلق من المصالح لا المبدأ، ويمكن منعها كعقاب.

ثالثا: البديل للمنطقة والذي يمثل مخرجا يخدم شعوب المنطقة ولا يخدم غاصبيها، ينبغي ان ينطلق من اتفاق الشعوب على رفض هكذا أنظمة، ومن الاتفاق على حد ادنى من ايدلوجية وطنية وإنسانية.

وينبغي أن ينطلق البديل من قناعة مسكوت عنها في تحليلات الغرب أوصلتنا لهذه الحال، وهي الاستعمار ورعاية هذا الاستعمار للمستبدين المحافظين على مصالحه.

لا شك أن خللاً كبيراً أصاب الوعي بفعل التشويه للتحرر الوطني والمقاومة، ووضع أنظمة التحرر مع الاستبداد في سلة واحدة، وكذلك وضع المقاومة مع الإرهاب في سلة أخرى، وهو ما نعترف أنه أصاب وعي الشعوب ونجح في تشتيتها، ولكن هذه المرحلة كاشفة وتجاوزت المراحل الرمادية، حيث انتزعت الأقنعة، وأقيمت الحجة على الشعوب.

لا نرى مخرجاً سوى المقاومة ودعمها، فهي أيدلوجية جامعة ومعادية لأعداء الشعوب ولها مشروعها التحرري وكفيلة بتوحيد الجهود وتوفير البوصلة لإعادة إعمار ما تم تخريبه اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا.