الخبر وما وراء الخبر

الجانب التربوي عند الإمام الهادي عليه السلام

201

بقلم / محمد القعمي
مما لاشك فيه أننا حين نتناول جانب من جوانب حياة عظماء البيت النبوي الطاهر فإننا لن نجد في أي جانب من تلك الجوانب ماهو منفصلٌ عن القرآن فكل حياتهم لاتدور إلا مع القرآن وهو ارتباط الورثة بميراث النبوة والسنة الإلهية التي جرت منذ اختيار آدم وذريته وحتى اختيار آخر نبي وذريته صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطاهرين
قال تعالى : (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (٣٣) ‘ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٣٤)’ [سورة آل عمران]
وقال جل جلاله عن أن يحويه قول أو يناله (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَىٰ وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (٥٣)’ [سورة غافر]
هذه واضحة فيما يتعلق بالسنة الإلهية في ميراث النبوة ثم قال لنبيه (قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٩)’ [سورة الأحقاف] ومن هنا قال سبحانه (وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (٣١)’ [سورة فاطر] وبعدها قال تعالى (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ۖ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣٢)’ [سورة فاطر]
فالأعلام من آل محمد هم صفوة الورثة وعلى رأسهم الإمام علي عليه السلام الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: علي مع القرآن والقرآن مع علي ) وقد روى المحدثون حديث الثقلين المشهور المتواتر ضمن فضائله عليه السلام والذي قال فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إني تاركٌ فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبدا ؛ كتاب الله وعترتي أهل بيتي إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض .)
فإذن كلما ذكرنا علمًا من أعلام الهدى فلا بد أن نذكر أنه قرين القرآن وحليف الهدى والفرقان وأن ذلك لايعني إلا أنه ارتبط في كل تفاصيل حياته ونهضته وحركته بالقرآن..
والجانب التربوي هو أهم ما يتجه إليه القرآن في بناء الإنسان وتقويم سلوكه ونظرته ومسيره ورؤيته ووعيه وحركته وهذا مما كان لا يخفى على أهل البيت عليهم السلام وهم يسيرون على وفق المهمة والوظيفة التي كان جدهم المصطفى صلوات الله وسلامه عليه وعليهم يسير عليها قال الله تعالى وهو يخبرنا عن ذلك (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٢)’ [سورة الجمعة]
فتأمل هذه الوظائف الثلاث :
يتلو ، يزكي ، يعلم
وهذه الثلاث هي من أساسيات المنهج التربوي القرآني الذي كان أهل البيت الأعلام يأخذون به في تربية المؤمنين تربية ً قرآنية ترقى بوعيهم وأخلاقهم وفهمهم وسلوكهم وتعاملهم واعتقاداتهم .. وهو ما كان عليه الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين عليه السلام ولعل في لقبه( الهادي إلى الحق) ما يشير إلى هذه القضية فالهدى والحق والقرآن كلٌ منها يُعبر عن الآخر ويدل عليه .. ثم ما ورد حوله من روايات عن جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعن أبيه أميرالمؤمنين علي عليه السلام تبشر به وبخروجه هي بمثابة الشهادة للإمام الهادي عليه السلام في أهم جوانب الدين وهو التربية وحين نقول تربية فذلك يعني التقويم للأخلاق والتهذيب للطباع والتزكية للنفوس وهي من أولويات الدين وقد نعني بها الثقافة كعنوان شامل ولعله ما جعل الشهيد السعيد الحسين بن بدرالدين الحوثي رضوان الله عليه يفضله كعنوان يرتبط بالقرآن ( الثقافة القرآنية) وذلك لاعتبارين الأول شمولية المعنى لكل ما ذكرنا سابقا وثانيا كون المفردة من المفردات العصرية المتداولة ..
والإمام الهادي هو قام بهذه المهمة باعتبارها أولوية ولكن في إطار العمل الجهادي وحركته في سبيل الله للعودة بالأمة ، إلى الصراط المستقيم إلى منهج الحق وطريق الاستقامة ومنهل النور ومما يوضح هذه الحقيقة عودته إلى الحجاز بعد أن قدم إلى اليمن بطلب من كبار القوم فيها الذين وفدوا إلى الإمام الهادي عليه السلام يتقدمهم أبو العتاهية أحد ملوك اليمن ، بعدما أصابتهم الفتن والمحن في عصور ولاة الأمويين والعباسيين فاتجهوا إلى منطقة الرس وطلبوا منه أن يخرج معهم إلى اليمن ليخلصها مما حل بها ونال أهلها من الشدة والبلاء فأجابهم وخرج معهم ( سنة ثمانين ومائتين حتى بلغ موضعا يقال له الشرفة بالقرب من صنعاء ، وأذعن له الناس وأطاعوه فأقام فيهم مديدة يسيرة ثم إنهم خذلوه ورجعوا إلى ما يسخط الله ولم يجد عليهم أعوانا ، وانصرف منهم حتى صار إلى بلده الحجاز) [ سيرة الهادي إلى الحق ص36 ] وأما ماهو الذي أغضبه ؟ ( قيل : أن سبب غضبه ورحيله ؛ أن بعض الأمراء هناك ، من أولاد ملوك اليمن ، من عشائر أبي العتاهية شرب الخمر فأمر بإحضاره ليقيم عليه الحد ، فامتنع عليه فقال (ع) : لا أكون كالفتيلة تضيئ غيرها وتحرق نفسها .) [ الإمام الهادي عليه السلام صورة موجزة / إعداد يحيى قاسم أبوعواضة ص28]
وهذا الأسلوب من التربية للأمة هو لجأ من خلاله ليريهم خطورة التهاون في الحدود ، وأنه مما لايليق بمثله أن يتساهل في حد من حدود الله ، وهو يعيب على الآخرين تهاونهم عن إقامة الحدود سيكون كمن يحرق نفسه لو أهمل ولم يقم الحد على ذلك الأمير وهي صورة من صور إنحراف بني إسرائيل ولايمكن للإمام الهادي عليه السلام أن يتجاهل هذه القضية الخطيرة .. وكان عليه السلام يقول : هل هي إلا سيرة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو النار ..) ويقول ( والله ماهو إلا الحكم بكتاب الله تعالى أو الخروج من الإسلام ) فعودته تربية للأمة على أن تتخذ موقفا قويا حين تتعلق المسألة بحد من الحدود ، وأن تكون في الصرامة بحيث لايمكن أن يجعلها أي منصب تتنازل عن دينها وتبيعه من أجل منصب ولهذا فهو عليه السلام عندما لم يجد الأعوان وكان من الناس تحاشي إغضاب تلك العشيرة التي شرب أحد أفرادها الخمر لأنه أمير من بيت ملك وفي مقابل ذلك الخذلان للحق وإغضاب الله ، فلم يسع الإمام الهادي عليه السلام إلا مفارقتهم .. وكان الناس قد اعتادوا على الفساد والانحراف ولم يسبق لأحدٍ من الحكام والولاة قبل الإمام الهادي (ع) أن عمل على تربيتهم تلك التربية الإيمانية التي تجعلهم يغضبون لحدود الله وقد تكلم الحسين بن بدرالدين الحوثي رضوان الله عليه عن مسألة التربية الإيمانية وأهميتها وأنها لن تكون إلا على أيدي أعلام أهل البيت عليهم السلام ..
في ملزمة ( في ظلال دعاء مكارم الأخلاق الدرس (٢)
قال : ( كان حديثنا حول دعاء الإمام زين العابدين (صلوات الله عليه) [دعاء مكارم الأخلاق] الذي قال فيه: ((اللهم صل على محمد وآله وبلغ بإيماني أكمل الإيمان)) وبلغ بإيماني أكمل الإيمان, وتحدثنا كثيراً حول هذه النقطة بالذات، وأن من كمال الإيمان هو الوعي والبصيرة، وأن كمال الإيمان يحتاج إلى هداية من الله سبحانه وتعالى, يهدي هو. عندما تعود إلى كتابه الكريم يهديك هو إلى المقامات التي من خلالها تحصل على كمال الإيمان, يهديك إلى من يمكن أن تحصل بواسطتهم على كمال الإيمان، وفيما يتعلق بهذا الموضوع الذي يحتاج إلى أن يكون هناك في الأمة من يعمل على تربية الأمة ليصل بها إلى كمال الإيمان، أو ليترقى بها في درجات كمال الإيمان.) فهو هنا وضح أن تربية الأمة لايكون إلا بواسطة الثقلين كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويقول السيد رحمه الله : اتضح جليا أن الكثير من حكام المسلمين بما فيهم حكام هذا العصر لا يمكن بواسطتهم ومن خلالهم أن يقوموا بتربية الأمة تربية إيمانية تترقى بهم في درجات كمال الإيمان، ونحن نجد أنفسنا، وكل واحد منكم شاهد على ذلك, بل ربما كل مواطن عربي في أي منطقة في البلاد العربية شاهد على ذلك.. أنه متى ما انطلق الناس ليربوا أنفسهم تربية إيمانية من خلال القرآن الكريم بما في ذلك الحديث عن الجهاد في سبيل الله, وعن مباينة أعداء الله، وعن إعداد أنفسهم للوقوف في وجوه أعداء الله كلهم يحس بخوف من سلاطينهم ومن زعمائهم. أليس الجهاد في سبيل الله هو سنام الإسلام؟. كما قال الإمام علي (عليه السلام)، أليس الجهاد في سبيل الله هو شرط أساسي من شروط كمال الإيمان؟. هذا هو ما أضاعه سلاطين المسلمين في هذا العصر, وإلغاؤه هو ما كان ضمن مواثيق [منظمة المؤتمر الإسلامي] أن لا يكون هناك حديث عن الجهاد، وهم من استبدلوا كلمة: جهاد، بكلمة: نضال، ومناضل، ومقاومة، وانتفاضة، وعناوين أخرى من هذه المفردات التي تساعد على إلغاء كلمة: الجهاد التي هي كلمة قرآنية, كلمة إسلامية. أي مؤمن يمكن أن يقول أو أي إنسان يمكنه أن يقول أن بإمكانه أن يكون مؤمنا دون أن يكون على أساس، دون أن يكون إيمانه على أساس مواصفات المؤمنين في القرآن الكريم، لا يستطيع أحد أن يدعي ذلك. إذاً فهل هؤلاء يسعون إلى أن يربوا الأمة تربية إيمانية؟ لا. التربية الإيمانية لا تكون إلا في ظل أهل بيت رسول الله، لا تكون إلا على يدي أهل بيت رسول الله (صلوات الله عليه وعليهم)، هذا ما شهد به التاريخ, وارجعوا أنتم إلى التأريخ كله بدءاً من يوم [السقيفة] إلى الآن.. )
وهو بالفعل ماكان حاصلا في العصر الذي ظهر فيه الإمام الهادي (ع) وقد كان العصر الأموي والعصر العباسي اتجها بالأمة بعيدا عن القرآن حتى لكأن عصر الإمام الهادي (ع) في العصر العباسي شبيه بحال الأمة في حاضرنا لولا تطور الوسائل فقط ولذلك عانى الإمام الهادي الكثير من المعاناة لأن كل الحكام من غير أهل البيت كانوا يهملون جانب تربية الأمة التربية التي ترقى بإيمانهم لأنهم في واقعهم هم أنفسهم يفتقدون إيها ويخشون لو أن الأمة تتربى تلك التربية التي تجعلها ترفض الظلم والفساد والانحراف لأنهم لو وجد من يربيهم على ذلك لخافوا منه وخافوا من الأمة أن تثور على ظلمهم وفسادهم وانحرافهم .. ثم يقول السيد حسين : لكن أهل البيت في تاريخهم الطويل، كان الإمام الذي يحكم هو من يسطر بيده وجوب الثورة عليه فيما إذا ظلم، وجوب الخروج عليه فيما إذا انحرف عن المسيرة العادلة, كان الإمام الهادي (صلوات الله عليه) يبايع الناس على ((أن تطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم، بل يجب عليكم أن تقاتلوني)). والأصل معروف في المذهب الزيدي [الخروج على الظالم] من الذي توارثه جيلاً بعد جيل؟. من الذي كتبه بيده؟. هم الأئمة الذين حكموا، هم الذين كانوا يرون أن القضية ليست قضية مرتبطة بالزيدية, هي قضية قرآنية، أنه يجب أن تربى الأمة تربية جهادية في كل مراحلها، وفي ظل أي دولة كانت, فكانوا هم من ينطلقون ليربوا الناس تربية جهادية, تربية إيمانية متكاملة. هم.. لماذا؟ لأن هناك انسجاماً كاملاً بين أهل البيت والقرآن, انسجاماً كاملاً بين مواقف أهل البيت ومبادئهم والقرآن والإيمان فهو يرى بل يتمنى وإن كان في موقع السلطة, يتمنى أن ترقى الأمة إلى أعلى درجات الإيمان، هو لا يخاف، هو يعلم أن ما هو عليه, أن موقفه, أن كماله الذي هو عليه لا يتنافى مع الإيمان, هو مقتضى الإيمان فمما يخاف؟ بل يتمنى.ألم يكن الإمام علي (عليه السلام) هو من يصدع بتلك الخطب البليغة لتوجيه الأمة, وتربيتها تربية إيمانية, وكذلك من بعده الحسن والحسين وزيد والقاسم والهادي وغيرهم.
وقد قدمنا صورة من صور التربية الإيمانية التي لجأ إليها الإمام الهادي حين ترك اليمن وعاد إلى الحجاز بالسبب الذي سبق ذكره وهذا الموقف منه سلام الله عليه يؤكد على أنه ليس من الطامعين في الملك والحريصين على الحكم لأن من يكونون على تلك الصفة لايمكن أن يتنازل عن الحكم ويترك الملك من أجل أنه لم يجد من يعينه على حد من شرب الخمر لأنه أمير أكثرهم كانوا يتعاطونه ومن لايتعاطاه لم يكن يقيم الحد على من كان من أهل المكانة والجاه وسواء شرب الخمر أو زنى أو سرق لأن الثقافة التي تم تعميمها في العصر الأموي وبالذات عصر معاوية هي ثقافة ( أطع الأمير وإن جلد ظهرك وغصب مالك ..إلخ) وثقافة ( وإن زنى وإن سرق )
فجاء الإمام الهادي (ع) في مرحلة كانت الأمة أحوج ماتكون إليه ليقدم موقفا عمليا يربي من خلاله الأمة على التزام المبادئ والقيم واحترام الدين وجسد قول جده أميرالمؤمنين عليه السلام : والله إن ولايتكم هذه لاتساوي شراك نعلي إلا أن أقيم حقا أو أزيل باطلا ) أو كما قال عليه السلام وموقف الإمام الهادي ترجمة عملية لتلك المقولة ولهذا شعر اليمنيون أنهم أخطأوا وخسروا رجلا عظيما تعلقت به قلوبهم وقد تعلموا الدرس ويقول أبو زهرة ( ولكنه عاد إلى الحجاز بعد أن تعلقت به القلوب ، ووجد الراشدون من أهل اليمن أنه الإمام الذي يستطيع أن يجمع شمل اليمنيين ..) [ الإمام زيد محمد أبو زهرة]
ووجدوا فيه الإمام الذي غرس فيهم القيم والأخلاق والقوة في الحق والإمام الذي اهتم على أن يربيهم التربية القرآنية ويجسدها لهم في سلوكه ومواقفه وأخلاقه وسيرته التي التزم لهم أن يسير فيهم بسيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى ذلك المستوى الذي لايفقدون معه إلا شخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما كان هو يعبر وهو يحثهم على متابعته والتزام سمته وسيرته .. فكان سلام الله عليه يربيهم بسيرته فيهم إذ كان أول من يعمل بالهدى كما رسمته المنهجية القرآنية للناس عن الأعلام من أنبياء الله وأوليائه ولنضرب بعض الأمثلة القرآنية لتوضيح هذه المنهجية التي سار عليها الإمام الهادي عليه السلام في تجسيده لحركة الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم باعتبار أن أعلام الهدى هم نماذج وقدوات وعلى رأسهم رسول الله (ص) والله تعالى يقول (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (٢١)’ [سورة الأحزاب]
ولنتأمل كيف كان الخطاب القرآني يتوجه بالتكليف أولا إلى النبي (ص)
١- في التقرير بالإيمان
# أمر الله نبيه أن يقول (قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٨٤) ‘وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٨٥)’ [سورة آل عمران]
# وكذلك أمر المؤمنين أن يقولوا ‘قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٦) ‘فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا ۖ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ ۖ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ ۚ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣٧)’ [سورة البقرة]

٢- في أمر الجهاد
# الأمر للنبي (ص) قال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ۚ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٣)’ [سورة التوبة]
# الأمر للمؤمنين بالتقوى والجهاد قال جل جلاله ‘يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣٥)’ [سورة المائدة]
٣- في الاتباع
# قال الله لنبيه (اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (١٠٦)’ [سورة الأنعام]
# وقال الله للمؤمنين (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ۗ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (٣)’ [سورة الأعراف]
# وقال لنبيه لاتتبع (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ۗ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (٤٩)’ [سورة المائدة]
# وقال للمؤمنين لاتتبعوا (وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٥٣)’ [سورة الأنعام]
٤- في الصبر
# قال الله لنبيه (وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١١٥)’ [سورة هود]
# وقال الله للمؤمنين (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠)’ [سورة آل عمران]
٥- في الاستقامة
# قال الله لنبيه (فَلِذَٰلِكَ فَادْعُ ۖ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ۖ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ ۖ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ۖ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ ۖ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ۖ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ۖ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا ۖ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٥)’ [سورة الشورى]
# وقال للمؤمنين ضمن الأمر للنبي (ص) (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا ۚ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٢)’ [سورة هود]
وقال أيضا على سبيل الإخبار (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠)’ [سورة فصلت]
وقال سبحانه (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٣)’ [سورة الأحقاف]
٦- التسليم والخضوع لله
# قال الله لنبيه (وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ )
(قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٦٦)’ [سورة غافر]
# وقال للمؤمنين على لسان نبيه (أُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِين)
( ‘قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَىٰ أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا ۗ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ ۖ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٧١)’ [سورة الأنعام]
٧- القتال
# قال الله لنبيه (فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ ۚ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ ۖ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (٨٤)’ [سورة النساء]
# وقال الله للمؤمنين (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠)’ [سورة البقرة]
٨- في الدعوة إلى كتاب الله وعدم استجابة الآخرين
# قال الله لنبيه (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ۚ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥٠)’ [سورة القصص]
# وقال الله للمؤمنين (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٤)’ [سورة هود]
وعلى هذه المنهجية القرآنية الصحيحة سار الإمام الهادي عليه السلام في تربية الناس قال علي بن محمد – راوي سيرته – : وسمعته يومًا يقول (يعني الهادي) وعنده جماعة من الناس : والله ما دعوتنا هذه إلا دعوة محمد مثلا بمثل ؛ دعا محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى كتاب الله والسنة ، وكذلك دعوتنا نحن إلى كتاب الله وسنة نبيه ، فهل يقدر أحد أن يقول ( إنا ) خالفنا حكم الكتاب والسنة ؟! . مايمنع أهل الأموال من القيام معنا إذا أخذنا منهم ما يجب عليهم ؟! وما يمنع الفقراء من القيام معنا إذا لم نستأثر بشئ من الأموال دونهم ؟!
والله ما يمنعهم من ذلك إلا ما منع مَن كان قبلهم من القيام مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ومع أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ، وما يمنعهم إلا أن دعوتنا مثل دعوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.) السيرة ص48]
ولأن تربيته للأمة كانت على هذا النحو القائم على التسليم والخضوع والإخلاص لله والصبر في سبيل الله وحيث لامكان للأهواء ؛ كان أولئك البعض الذين ذكرهم الإمام لايقومون معه وكان في مدى ثقته بنفسه وسلامة منهجه واستقامة طريقته يربي الناس على هذا النحو الذي ينقله لنا راوي سيرته علي بن محمد حيث يقول : ورأيته يومًا وقد أخذ المصحف ثم قال للناس : بيني وبينكم هذا آية آية ، فإن خالفت ما فيه بحرف فلا طاعة لي عليكم ، بل عليكم أن تقاتلوني أنا .] السيرة ص51)
وهذا هو نفس ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله : لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ) هذه هي التربية القرآنية التي تبني أمة على الإخلاص لله وتعظيمه والاستقامة على هداه وتعبيد النفوس له ..
بهذه العظمة وبهذا السمو يبدو الإمام الهادي عليه السلام وهو يقول وبلهجة قوية وثقة عالية ( بل عليكم أن تقاتلوني أنا) وكأنه يترجم قول الله تعالى
(الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ ۗ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا (٣٩)’ [سورة الأحزاب]
يأمرهم أن يقاتلوه لو خالف كتاب الله هو يريد أن يبنيهم بذلك الشكل الذي يراهم لايخافون في الله لومة لائم
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٥٤)’ [سورة المائدة]
يريد أن يكونوا ممن يحبهم الله وأن يكونوا من أهل ذلك الفضل الذي يؤتيه الله من يشاء يريد أن ينزع من نفوسهم ما كان قد ترسخ فيها من انحرافات جاءتهم عبر تربية الولاة الأمويين والعباسيين للناس على المداهنة والمهادنة ومجاملة الأمراء والسكوت على معاصيهم ومخالفتهم لدين الله فأراد أن يغرس في نفوسهم الجرأة حتى عليه لو أنه خالف كتاب الله (.. فإن خالفت طاعة الله فلا طاعة لي عليكم )السيرة ص48)
وهو ما أشار إليه الشهيد القائد رضوان الله عليه فيما سبق واقتطفناه من ملزمة مكارم الأخلاق الدرس2 ]