الخبر وما وراء الخبر

أهلاً أهلاً يا نانا: سيمفونية تعصف بـ”الساعة السليمانية”.!

255

ذمار نيوز | خاص | تحقيق: فؤاد الجنيد 25 محرم 1440هـ الموافق 5 أكتوبر، 2018م

لم يعد الزامل الشعبي المولود حديثاً وحده الذي يمنحك طاقة لحظية تجد معها أطرافك تتحرك لا إرادياً بنشوة روحية قبلها جسدية، وكأنك في إحدى جبهات القتال تتوقد عزيمة وحماسة ورباطة جأش. وليست الشيلة النظيرة في المحور الصادي وحدها التي تمنحك جرعة كافية من الطرب اللافت لتتمايل راقصاً على تعاريج صوتها المحسن الشجي، فكلاهما ينصهران أمام سيمفونية أخرى تهيج المشاعر أكثر، وتصنع فوضى خلاقة جماعية للحواس لأكبر شريحة من اليمنيين من كل الفئات العمرية، ولكل فئة تعليلها.

أهلاً أهلاً

أغنية صوتية رقيقة خاصة بمثلوجات الآيسكريم تجعل الأطفال في حشر حقيقي، وهي تتسرب على الأسماع من ذلك البوق الدائري واسع الصدى، وتجلب للأباء والأمهات معاناة وقلق دائمين في تلك اللحظات، خصوصاً عندما لا يجدون قيمة الآيسكريم لأطفالهم، ولا يملكون مبررات مقنعة يهضمها الأطفال. عربات الآيسكريم وسيارات الكريمة المثلجة لا تتوقف عن الطواف اليومي في كل أزقة المدن والحارات، وعلى جوانب الشوارع، وهي تصدح لاهجة بتلك الكلمات الدلالية الممزوجة مع لحن طفولي رخيم: أهلاً أهلاً يا نانا، يا أحلى آيسكريم. وبمجرد سماعها يهرع الأطفال بإرادة أو بدونها إلى الشارع، وبدون علم الأباء والأمهات في أحيان عدة.

قلق محموم

هنا تظهر معالم القلق المزدوج على الأسر اليمنية؛ فإلى جانب المخاوف الأمنية في ظل الظروف والأوضاع الحالية وظهور أحداث الإختطاف والسطو والسرقة والفقدان، هناك أزمة مالية واقتصادية خانقة لم تستثن أحداً، جعلت من أصغر فئة ورقية نقدية في مصاف المعدوم، ناهيك عن المخاوف الصحية من المخاطر التي تسببها هذه المثلوجات مع تفشي مرض الكوليرا واللوزتين خصوصاً مع طقس المدينة البارد. لا يمكن للأطفال أن يحسوا أو يقدروا حجم هذه الصدامات العائلية الصامتة التي فرضتها الظروف دونما رحمة. وكيف لهم أن يفهموا هذه المخاوف والتوجسات وهم في هذا السن اليافع المحصن بالبراءة؟ لكن ذلك يؤثر سلباً بكل تأكيد على علاقاتهم بأسرهم، ويجعلهم أكثر تمرداً وشقاوة، وأكثر ميولاً لسلوك العناد.

دلال الأحفاد

في المجتمع اليمني تعيش معظم الأسر مجتمعة في دار واحدة تحت قيادة الجد والجدة، وهي أسر مستقلة ذاتياً مكونة من الإخوان وأبنائهم في إطار العمارة الواحدة أو المنزل الواحد ذي الطوابق المتعددة. وبالتالي، يعيش الأطفال في جو نفسي واجتماعي غني بالود والعاطفة والتربية الإنسانية المدعمة بالقيم والسلوك الحسن. لكن ذلك لا يخلو من الشقاوة التي تعكر الصفو وتقلق البال بقدر براءتها وقربها من النفس والقلب. فلا إرادة فوق إرادة الطفل اليمني في منزله وبين أسرته، ولا حيلة للوالدين من المراوغة والهروب من طلباته المشروعة وغير المشروعة، خصوصاً عندما يكون حفيداً يستند إلى دعم الأجداد اللوجيستي الذي يمنحه كامل الدلال.

ساعة العودي

في الساعة السليمانية اليمنية، وهي ساعة المقيل والأنس والراحة، يقضي اليمنيون مع أهلهم ومحبيهم ساعات مستقطعة، يمضغون فيها توليفة استثنائية من أغصان القات غالية الثمن، ويعيشون لحظات صفاء زاخرة بالكيف والتركيز، ويسبحون في مجرات من أحلام اليقظة، لكن شقاوة الأطفال تفرض نفسها وتقتحم هذا الجو الطفرة والفضاء الخرافي الإفتراضي. في بادئ الأمر، تصدرت قناتا «طيور الجنة» و«سبيستون» قائمة الكوابيس المنزلية للآباء والأمهات؛ فريموت التلفاز لا يغادر أيدي الأطفال للاحتفاظ بحقهم في مشاهدة هاتين القناتين، ويغرقون المنزل صراخاً وعويلاً في حال تمت مصادرة هذا الحق، وبالتالي لا يتمكن الكبار من متابعة الأخبار أو أي برامج أخرى تستدعي المتابعة والمشاهدة، رغبة منهم في التخلص من ضجيج وفوضى الأطفال التي تتسبب في تعكير صفو تلك الساعة، «ساعة العودي».

شقاوة التقليد

ومع انقطاع الكهرباء كلياً، وعدم قدرة الطاقة البديلة على أن تحل محلها في ظل الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي جلبتها الحرب الظالمة على البلاد، اقتصرت اهتمامات الأسر اليمنية على الضروريات من المأكل والمشرب والملبس والدواء، وبقيت أهمية الكهرباء قاصرة على شحن الجوالات والإضاءة الليلية، وهذا جعل من مواقع التواصل الإجتماعي متنفساً وحيداً لمتابعة كل جديد: الأخبار والأحداث ومآلات الأوضاع السياسية والعسكرية. هذا العالم الإفتراضي استقطب ميول الأطفال أيضاً؛ فهم يرون آباءهم وأمهاتهم عاكفين طوال الوقت على جوالات اللمس الرقمية، ويطربون بإيقاعات نقر الأصابع صعوداً ونزولاً، وهذا بدوره أجبر بعض الآباء والأمهات على تحميل لعب الأطفال في جوالاتهم أو شراء جوالات للأطفال من الأجيال الإلكترونية الرخيصة.

العودة مجدداً

وبعد إدمان الأطفال على تلك اللعب الإلكترونية وفصولها ومراحلها، صاروا بالتوازي مع ذلك يشاهدون مقاطع فيديوهات خاصة بهم، جلها من تلك القنوات الفضائية التي شكلت عالمهم الخاص في الماضي القريب. قد تبدو طلبات الأطفال غيرمكلفة نوعاً ما من الناحية المادية والنفسية، عندما تتعلق فقط بجرعات فنية وثقافية وكتل شعورية، وكذا عندما تكون محصورة داخل إطار المنزل نفسه، لكن عندما يتعلق الأمر بالخروج من المنزل في أوقات الهجوع والراحة، والحاجة للمال في توفير طلبات الأطفال تلك، فإن الوضع سيصبح في مقام آخر من التعقيد، تماماً كتلك الفوضى الخلاقة التي تأتي مع ترحيب «أهلاً أهلاً يا نانا» في ساعات الراحة اليومية..!!