رحـيــــل الـحسين
بقلم / مطهر يحيى شرف الدين
رحل ومعه اليواقيتُ النيِّرةُ المضيئةُ التي أبت إلا أن تخرُجَ ثائرةً مع أبيها الذي خرج لينشُدَ الكمالَ والسلامَ والحقَّ والعدلَ للبشرية في كُـلّ زمان ومكان..
هَيَّأَ الحُسَيْن عليه السلام الزادَ والراحلةَ في موكبٍ صغير وعدده قليل ومحدود، لكن جوهرَهُ ثقةٌ بالله وإيْمَــانُهُ لا يتزحزح وثباته راسخٌ كالطود العظيم يخشاه جبابرةُ الأرض وطواغيتها، وفي ظاهر ذلك الموكب ثورةٌ على الظلم والطغيان والاستبداد، وعلى كاهل أبي عبدالله الحُسَيْن تُحمَلُ المسؤوليةُ الدينية والأَخْـــلَاقية التي إنْ تركها أَوْ تخلى عنها عمّ الجهل والفسق وانحرفت المبادئ والقيم وتغيرت الثقافة الإسلامية إلى سلوك جاهلي.
خرج الحُسَيْن ليحمل همَّ الدنيا والآخرة ويختزنَ في جوفه القضيةَ والمبدأ والعالمية والشمولية.
رحل صاحب المقولة الشهيرة “إن كان دينُ محمدٍ لم يستقم إلا بقتلي فيا سيوفُ خُذيني”..
معركة الإمام ضد المنافقين أعداء الإسلام حملت شعار “هيهات منا الذلة” كما سار على ذلك جده النبي الأكرم الرحمة المهداة لهذه الأمة محمد صلواتُ الله عليه وآله وأبوهُ الإمام علي عليه السلام، في موكبه الطاهر يشاهد الإمام الحُسَيْن البراعم من بنيه ونسائه من ذويه يواقيتَ مضيئةً باسمةً تتطلع إلى وجهه الكريم مؤملةً الرضا والقناعة بما سيكون من تحمُّل عناء ومشقة الطريق ووعثاء السفر، لكنها حين تنظرُ إلى وجه الإمام الطاهر فإنها ترى فيه سفينةَ النجاة وتطمئن نفوسُها؛ لما يعكسه محياهُ المضيء المشرق الذي يوحي بعظمة في النفس وسمو في الروح المتلهفة للحرية والكرامة الداعية إلى سبيلٍ فيه السكينة والنجاة والثبات الإيْمَــاني.
في المسير يرى الحُسَيْن عزته وكرامته وشموخه على تلك الوجوه المتلألئة التي حملت العهد والميثاق بحب الله ورسوله وأوليائه، ودفعت بنفسها طائعةً مرضيةً مؤيدة للمسيرة الحُسَيْنية التي ما جاءت إلا لتُحييَ نفوساً ضالةً ظلت تلهَثُ وراء ملذات وَشهوات الدنيا وتحَـرّك ضمائر ميتة نحو حياة تضمن لأصحابها خير الدنيا والآخرة.
خَرَجَ الجيلُ الحُسَيْني مع سيد شباب أهل الجنة؛ ليُثبِتَ وجودَه وكيانه ويبعث من بعده أجيالاً متتابعةً تخطو وتسلُكُ مسلكَ الجهاد الفاتحَ لأبواب الجنة التي لا تفتّح إلا للخاصّة من أولياء الله الصالحين.
رحل سيّدُ الشهداء في موكب مهيب جبنت لمواجهته ثلةٌ من أذناب يزيد وابن زياد، فحشدت قوى الطاغوت الآلافَ من الجُنْدِ في معركة غير متكافئة انتصر فيها الدم على السيف وانتصر فيها الحق على الباطل موثقة للتأريخ مدى العمق الإيْمَــاني والأَخْـــلَاقي والروحي المتجذر في عروق الحُسَيْن وأبنائه وهم في موكب عظيم تأريخي جسد مواجهةَ الإسلام مع النفاق، فكان العشرات من أصحاب الإمام يستقبلون رماحَ الغدر والنفاق بصدورهم وهم في حالة حصار شديد بلغ العطش والجوع مبلغه والعدوّ اللدود يحبس عنهم القوت والماء، ففي ذلك الموكب الذي اختاره اللهُ ليكونَ عنواناً لكرامة وعزة المجتمع الإسلامي ستبقى القضيةُ خالدةً والمبدأ ثابتاً لا يتغير وستبقى ذكرى ذلك اليوم الكربلائي دائمةً يُحييها الأحرارُ من بعده في كُـلّ الأجيال وعلى مر الزمان؛ لتجسد قُــوَّة اليقين والإيْمَــان الراسخ الذي لا يهتز وَلا تؤثر فيه مغريات وشهوات الدنيا.
ذلك الموكبُ الحُسَيْني الذي دائماً ما تتكرر عناوينُه وتفاصيلُه سيبقى هدفُه ووِجهتُه في ميدان هذه الأرض إقامةَ العدل ونُصرةَ الحق والوقوف إلى جانب المستضعفين ومقارَعة المستكبرين الظالمين، فمنذ ذلك الحين كانت هناك ولا تزال موجاتٌ من الظلم والطغيان والسخرية والاستخفاف بالدين الإسلامي وشريعة نبينا صلوات الله وسلامه عليه وآله الطاهرين، تلت الموجات العديدة والأعاصير البشرية التي سلكت مسلكَ الشياطين واتبعت الأهواء وتبرّأت من الدين وأعلنت هجرتَها إلى الأطماع وجعلت نصبَ عينها احتواء الدنيا وملذاتها.
نحوَ الطريق إلى كربلاء، يشاهِدُ الحُسَيْن الغدرَ والمكرَ والنفاق قد ملأ وجوهَ المتخاذلين الذين أحبوه أقوالاً وخذلوه أفعالاً، فكانت قلوبهم معه وسيوفُهم مع يزيد، وكما قال الشاعر المسيحي بولس سلامة على لسان الفرزدق، مخاطباً الحُسَيْن “لك في الكوفة القلوب ولكن.. لستَ تلقى خلف القلوب رجالاً.. وإذا الحُبُّ لم يؤيد بفعلٍ.. ظل في كفه الوفاء خيالاً”، حينها يدرك الحُسَيْن أن الجبن والخوف وحُبَّ الدنيا قد سيطر عليهم وأقعدهم عن القتال، فكان ردُّه على الفرزدق شافيًّا ومقنعاً بقوله:
لإنْ كانت الدنيا تُعَدُّ نفيسةً.. فدارُ ثواب الله أعلى وأنبلُ..
وإنْ كانت الأبدان للموت أنشئت.. فقتلُ امرئٍ بالسيف في الله أفضلُ..
وإنْ كانت الأرزاقُ شيئاً مقدراً.. فقلةُ سعي المرء في الرزق أجملُ..
فهنيئاً لك يا حُسين بتلك الشهادة وبذلك الموقف العظيم.
والسلام عليك وعلى أصحابك شهداء كربلاء..
سلام على علي بن الحُسَيْن وعلى زينب أخت الحُسَيْن وعلى سكينة ورقية ابنتَي الحُسَيْن، وعظّم اللهُ أجرَ المسلمين وجَبَرَ اللهُ مصابَهم، قال تعالى: “الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ”..