الخبر وما وراء الخبر

مقاومة أحرار تهامة للغزاة العثمانيين والبريطانيين في التاريخ الحديث ..3

202

بقلم / حمود عبدالله الأهنومي

في ما يتعلق بالعثمانيين في اليمن، فإنه على الرغم من إذكائهم للنعرة المذهبية بين الشوافع والزيود في اليمن، ولا سيما في تهامة، وعلى الرغم من استخدامهم الطائفيةَ والمذهبيةَ لضرب الروح الثورية الوطنية فيهم، إلا أن ذلك في نهاية الأمر لم يُجْدِ نفعا، ولم يُعطِهم الحصانة من ثورات اليمنيين الشوافع في تهامة؛ حيث ظلت ثورات أبناء تهامة الأحرار متوقِّـدة طوال الوجود العثماني في اليمن.

في عددٍ من المرات سعى السلطانُ عبدُالحميد لتهدئة الأوضاع في تهامة بدعوة العلماءِ والمناصِب والسادة والقضاة إلى بلاطه السلطاني بالأستانة، وأعفاهم من المطالب المالية، ومنحهم الأموال، ووهبهم الجواري، وحذّرهم ممَّنْ سمَّاهم (الزيديين)، وما أسماه (احتلالهم) لتهامة، ونفخ فيهم نارَ التعصُّب المذهبي، غير أن ذلك لم يكن سوى مهدِّئات مؤقَّتة عن الثورة، تناولت بعض آثار الحمى، ولم تأتِ على حقيقة الأمر والعلة، وهو شعورُ اليمنيين بضرورة إخراج المحتل الأجنبي من أرضهم؛ ولهذا سرعان ما كانت تشتعل تلك الثورات بين الفينة والأخرى.

وهذه بعض صور ومظاهر التوجه التحرُّري والثوري عند أبناء تهامة الأحرار تجاه العثمانيين:

– كان للجاحيين (أهالي الجاح) دورٌ كبير في الثورة على العثمانيين؛ حيث كانوا يعتمدون دائما على بساتين النخيل للتحصُّن بها، والتخفي وراءها، عند شنِّهم هجماتٍ ثورية مناهضة لجباية الضرائب العثمانية المرهقة، وفي إحدى المعارك تكبّد أحمد راشد (أحد قادة الأتراك) هزائمَ خطيرة في الجاح، ووقع في فخ الزرانيق، وهو غابات أشجار النخيل ومتاهاته التي لا تنتهي.

– وفي عام 1298م استطاع أحدُ قادة الأتراك في تهامة، وهو محمد بك المشهور بالكمندار – فرض سطوته العسكرية وقبضته الحديدية على قبائل تهامة وعلى رأسهم الزرانيق، ثم إنه خطر بباله أن يغزوَ قبيلة بني مروان الثائرة في ميدي، وأن يلاحقَهم إلى مساكنهم الكائنة بين أشجارٍ ملتفة تسمى الشعاب، فغزاهم بـ300 مقاتل، لكنهم أحاطوا بالعسكر التركي، وقتلوهم عن آخرهم، وما نجا منهم إلا القليل، وهرب الكمندار على فرسٍ، وما نجا برأسه إلا وقد مُزِّقَتْ ثيابُه؛ الأمر الذي اضطر قادة الأتراك في صنعاء لمحاكمته محاكمة عسكرية، قضت بطرده من وظيفته، وحبسِه حتى الموت، وكان من نتائج تلك الهزيمة المدوِّية كسرُ حاجز الخوف والرهبة لدى بقية أهالي تهامة وقبائلها من سلطات الاحتلال العثماني.

– لما ولِّيَ أحمد فيضي باشا اليمن أول مرة في سنة 1302هـ / 1884م كانت له مواقف عدائية ضد الزرانيق منذ قدومه مع الحملة لاحتلال صنعاء، فاستفزَّهم بأعماله، فكانت المعارك بين الزرانيق والعثمانيين شبهَ يومية منذ 1304هـ / 1887م.

– وصل إسماعيل الحافظ باشا الحديدة عام 1307هـ / يونيو 1890م وحاول الاحتكاك بالزرانيق من خلال التضييق على أفرادها؛ مما أدى إلى تأجيج الثورة في ذي الحجة 1307هـ/ يوليو 1890م، وعمّت تهامة، وحوصِرَت الحامية العثمانية في بيت الفقيه، ووصلت إلى الحديدة والمراوعة واللحية، وكادت زبيد أن تقع بيد الثوار في 28 صفر 1308هـ/ 12 أكتوبر 1890م.

-وفي ذي الحجة 1308م/ 1891م قدم الوالي حسن أديب باشا وكانت تهامة تفور ضد الوجود العثماني، وقد حوصِرت الحاميات العثمانية في المدن التهامية، وتم قطع الاتصال البرقي والمواصلات، ولما أعادت السلطات العثمانية قبضتها الحديدية على مدن تهامة وفرضت حظر التجوال وبقية القوانين العرفية، اشتدت ضربات الثوار التهاميين أكثر، ونصبوا الكمائن للقوات العثمانية في الطرقات والحارات وأزقة المدن.

– ثم أمام عودة مظاهر الفساد والارتشاء والظلم كان لا بد للثورة التهامية أن تستمر، فاتّبَعَتْ أسلوبَ نسف المساكن العثمانية، والاغتيالات، والكمائن، واشتدَّ أزر هذه الثورة، وصلُب عودُها، بعودة ثورة القبائل عامة بقوة، وقطعِهم الطرقَ وسِلك التلغراف، بل ومهاجمة الدوريات البحرية العثمانية في البحر الأحمر، فأزعجت هذه العمليات القيادة العسكرية العثمانية بقوة، فسارعت إلى تهدئة الأوضاع، وتغيير العمال في تهامة، واستبدال أعمدة التلغراف الخشبية بأخرى من الحديد.

– ومع ذلك فلم يجد ذلك نفعا، بل وجد القائدُ التركي في (بيت الفقيه) أدهم أفندي نفسَه محاصَرا من قبل الثوار التهاميين، فهرب إلى الحديدة؛ فرأى أحمد فيضي باشا أن الفرصة مواتية لضرب الثوار وقمعِهم، وأعَدّ العدة والمؤن اللازمة لذلك، وقد استطاع قائدُه (أدهم باشا) إخضاعَ القبائل المجاوِرة للزرانيق، لكنه لما وصل إلى قرية (المحْوِي) من بلد الوعارية، وطلب من الزرانيق الحضور، رفضوا خوفا من غدره، فتقدّم لحربهم في قرية الجنبعية، ولكنه منيَ هناك بهزيمة نكراء، وقتِل من جنوده 1500 قتيل، ولا يزال التهاميون يذكرون هذه المعركة، ويسمونها بـ(يوم الجنبعية).

– بعد ذلك أراد خديعة المشايخ بالقبض عليهم، ثم نفيهم إلى إحدى الجزر، فعلمت الجماهير التهامية بذلك، فأحدقت كتائب الثوار منهم ببيت الفقيه وحاصروا الأتراك فيها وقطعوا المدد عنهم، ومنعوا الداخل والخارج، وقطعوا أسلاك السلك السرية للمخابرات، ولم يفكوا الحصار إلا بعد إطلاق مشائخهم، وعودتهم سالمين.

– أثناء ثورة الزرانيق اندلعت ثورةُ قبائلَ أخرى، هي قبائل الجرابح، فاتجهت القبيلة إلى أساليبها وتكتيكاتها المعتادة، فقطعتِ الطرُقَ، ومنعت مرورَ الأتراك، واقتلعت الأخشاب المنصوبة لخيط التلغراف بالبلاد، وصالت وجالت، ولما أُرسِلَت حملة عسكرية سُحِقَتْ؛ قال المؤرخ زبارة: “فجهزت العجم جنودها بقيادة إبراهيم بك، فضربتهم قبائل الجرابح الضربَ البالغ، وشتَّتْ جموعَهم، واستولت على بعض أثقالهم..”.

– لم يكتف أحرار تهامة باستهداف الاحتلال وجنوده، بل وحاولوا تصفية بعض الخونة والمرتزقة المنافقين المتعاونين مع الغزاة، فقد حاولت قبيلة صليل اغتيال الشيخ عبدالله باشا بن محمد, أحد أهم ركائز السيطرة العثمانية في تهامة، وظلّ الشعورُ الشعبي العدائي ضد تلك الطبقة من التجار والمواطنين الذين استطاعوا عن طريق صلاتهم الحسنة بالعثمانيين أن يحصلوا على مركز ممتاز.

وهكذا استمرت ثورة الأحرار من أبناء تهامة ضد الأتراك الغزاة، ولم يشفع لهم أنهم جنود “الخلافة الإسلامية”، ومقاتلو “دولة الإسلام”، كما لم تنطلِ عليهم خدع وتضليلات الباب العالي في الأستانة التي كانوا يُطِلُّون بها من بوابة الاختلاف المذهبي، والتلويح الدائم بـ(بعبع الزيود) الجبليين، فاستمر ذلك الوضع الثوري حتى خروج الأتراك من اليمن.

وهكذا يتبين:

-أن الاحتلال الغازي للبلد لا يدخر جهدا ولا إمكانية في خلق الصراع المذهبي والطائفي والمناطقي بين أهالي البلد المحتل؛ ليسهل عليه ضرب مكوناته المختلفة، وهو ما نراه اليوم ونشاهده، على أمل أن يجد ثغرات ينفذ منها لتجنيد أكبر عدد ممكن من المذهبيين والطائفيين للقتال تحت رايته، ومن أجل أهدافه.

-وأن اليمنيين وإن وقعوا تحت طائلة الخديعة والمكر وتأثير المال؛ فإنهم سرعان ما يعودون إلى تغليب مصلحة دينهم ودنياهم، والانحياز إلى الواجب الشرعي والوطني والمنطقي، وهو مقاومة الغزاة وطردهم، حتى ولو لبسوا مسوح الإسلام، وتجلببوا بمذاهبه المختلفة.

-وأن الثائر اليمني لا يعدم الأساليب القتالية البارعة والمنكّلة بالعدو الغازي، وتقف معه طبوغرافية بلده بتنوعاتها المختلفة لتقاتل بشراسة، وتوقِع الغازي المحتل في شراكها؛ الأمر الذي يهيئ للإيقاع به والقضاء عليه بشكل نهائي؛ وهو ما يستلزم اليوم التفكير الإبداعي حول أقوى الأساليب والظروف القتالية التي تخدم المعركة الوطنية التحررية.

-وأن على المرتزقة المنافقين اليوم أخذ العظة والعبرة ممن سبقوهم، من أشباههم وأضرابهم، كيف لفَظهم التاريخ ككائنات تستحق العزل، وكيف كرههم المجتمع، وأشار إليهم بسبّابة العار، وإشارة الشنار. وقبل ذلك وبعده غضب الله القوي القهار.