الخبر وما وراء الخبر

كيف قادت المقاومة حرب 2006؟

46

عندما تلا القاضي الإسرائيلي ألياهو فينوغراد مقاطع من تقرير لجنة الفحص الحكومية لتقصّي الحقائق حول «حرب لبنان الثانية»، كان يذكر بعض الإخفاقات التي وقعت فيها القيادة السياسية والعسكرية والأمنية، وحين أشار الى «إخفاقات خطيرة في عمليات صنع القرار، وعمل الطواقم بشكل مستقل أو في ما بينها»، أضاف ملاحظة حول «انعدام التفكير والتخطيط الاستراتيجي»، وهذه العبارة تشير إلى خلل كبير في منظومة القيادة والسيطرة. في المقابل، اعترف العدو، من خلال مضمون تقرير فينوغراد بأن حزب الله لم يخسر الحرب وذلك بفضل تفوق منظومة القيادة والسيطرة لديه. بعد كل هذه الأعوام، تسلط «الأخبار» الضوء على كيفية عمل منظومة القيادة والسيطرة لدى حزب الله خلال حرب تموز 2006.

قبل حرب تموز 2006، كانت التعريفات الإسرائيلية أو الغربية لحزب الله تجعله في أحسن الأحوال منظمة شبه عسكرية وتصورها على أنها «النسخة المطورة» لمنظمات فلسطينية أو عربية من حقبة الثمانينيات، لكن وجهة النظر هذه، تتجاهل أن حزب الله وطوال فترة صراعه لم يكن يعمل بعشوائية. في الشواهد،كانت إدارة معركة تصفية الحساب عام 1993 وبعدها عناقيد الغضب 1996، وصولاً إلى إدارة عملية التحرير 2000 وما بعدها، عبارة عن إدارة منظومة حقيقية بلغت ذروتها على المستويات كافة في حرب تموز عام 2006، فكيف بنيت المنظومة ولماذا؟

لا يمكن فهم ذلك من دون العودة الى الجذور هنا، فحزب الله ذو الأسس العقائدية المرتبطة بمفاهيم إسلامية ــــ خمينية رفضت الميل الى المدرسة الشرقية أو الغربية وحاولت إرساء مفاهيمها الخاصة في المجالات كافة، لذلك، كان على الحزب منذ تأسيسه البحث عن مفهومه الخاص للقيادة وفقاً لهذه الاعتبارات، فانطلق من أنه لا توجد قيادة تقود شعباً، ولكن هناك شعب يقود مقاومة.

هذا المفهوم غير موجود لدى الكيان الإسرائيلي، ولا حتى لدى الجيوش، بل إنه لم يكن موجوداً لدى المقاومات المختلفة، سواء كانت شرقية أو غربية، حيث كانت قيادتها في مكان، والشعب في مكان آخر، مع وجود حواجز وفواصل، أما في حالة حزب الله هنا، فكانت المقاومة بالكامل من الشعب، وإن لم يكن الشعب بكامله مع المقاومة، فالمقاومة طابعها شعبي، ليس لها أرضية نهائية سوى شعبها، وليس لديها مرجعية سوى شعبها، لذلك، فإن النمو الذي حصل منذ البداية حتى 2006 كان نمو الجسد الواحد بحيث إن الأعضاء والعضلات والشريان والأعصاب وكامل الجسد نمت مع بعضها البعض، من هنا، فإنه بموازاة نمو «العسكر» في حزب الله، نمت الهيئات المدنية المختلفة كجزء من عملية المقاومة بوجوهها المختلفة، وهي ما باتت تعرف لاحقاً بـ«مجتمع المقاومة» أو ما يعبر عنه بـ«الجبهة الداخلية».

تهديد الجبهة الداخلية للعدو

تطرق تقرير فينوغراد بشكل لافت إلى الجبهة الداخلية الإسرائيلية، وبدا واضحاً أن أحد أهم أسباب الإخفاق في حرب تموز، هو تمكن حزب الله من ضرب إسرائيل في هذا الموجع. السبب هو أن إسرائيل حتى ما قبل 2006 فصلت بين الجبهة الداخلية والجبهة العسكرية. تاريخياً، كان العدو يقاتل في أرض بعيدة عن جبهته الداخلية التي تستمر في عيشها الهادئ. وكل منظومة القيادة والسيطرة لديه هي شأن عسكري بحت. هذا سببه أصل بناء الكيان، حيث إن العصابات العسكرية جاءت بداية وبنت جيشاً ثم جيء له بشعب من كل أنحاء العالم، وهذا ما سيجعل من الجبهة الداخلية العنصر الأكثر إيلاماً له، لذلك هو يخاف عليها كثيراً ويقوم بكل جهده للحفاظ عليها، حتى إن أكبر همه هو خوض الحرب حتى لا تتهدد هذه الجبهة، وهذا ما لم يقدر عليه في حرب تموز 2006، فأفلتت القيادة والسيطرة من يده بمجرد تعرض الجبهة الداخلية للقصف المتواصل بالصواريخ وللأضرار المادية، إضافة الى النزوح الكبير لمستوطني الشمال في ظل عدم جاهزية في مختلف الهيئات المدنية لتلقّي هذا الشكل من الحروب، وهذا يعني أن العملية العسكرية ستفشل بمجرد إيصال التهديد الى الجبهة الداخلية.

بالنسبة إلى حزب الله، تبدو المسألة مختلفة، فهو في الأصل كبر كجسم واحد، وبنى منظومته على التشابه والترابط، والهيئات المدنية فيه منذ نشأتها حتى نموها واتخاذها أشكالاً كبرى (مؤسسات/ مستشفيات/ دفاع مدني إلخ..)، بقيت محافظة في أصل التكوين على دورها في المقاومة. لذلك، فإنها في وقت الحرب، ليست ملحقة بالجهد العسكري حتى تكون بحاجة الى توجيه وقيادة وإدارة وسيطرة على مرافق مدنية لتصبح عسكرية. هي شعبية، وكذلك المقاومة، برغم تعاظم قدرتها بقيت شعبية وبقيت «الجبهة الداخلية» للمقاومة والعمل العسكري يعملان معاً، فتصبح القيادة والسيطرة: ممتدة بالتشكيلات من أولها إلى آخرها وفي كل المفاصل، موجودة في كل الأماكن الجغرافية وفق هيكلية الترابط والانفصال في آن.

تهديد الوزاني نموذجاً

إن قيادة العمق مرتبطة بشكل أساسي بتشكيل حزب الله، وهو تشكيل عنقودي، كعنقود العنب يتصل بشريان واحد يمتد من أول العنقود حتى آخره، وتتشابه فيه كل الحبات من حيث الخصائص و الوصل والكيفية، وبالتالي، فإن الأوامر أو التوجهات الصادرة من أول العنقود هي نافذة وواصلة الى آخره، من القيادة المركزية الى الحدود. في حالة الحرب، الكل يعرف مهماته، الاحتمالات التي يجب أن يعمل عليها، التدابير والإجراءات، كيفية الانتقال والاستقرار والتموضع، الخطط البديلة وإلى ما هنالك.

لذلك، هذه المنظومة موجودة في الجغرافيا كلها، ونظراً إلى تعدد الأماكن فهي غير قابلة للتشخيص، وليس هناك مكان واحد لجهة واحدة، فتتم قيادة المجموعات أو تنفيذ المهمات من أماكن عدة مشخصة مسبقاً، وهذا يسري على المستويات كافة بما فيها القيادة العليا، وحتى إذا أراد شخص من داخل القيادة أن يحدد مكاناً مشخصاً واحداً سيفشل ويبقى ضائعاً أمام احتمالات عدة، وحتى لو قيل إنها في بيروت أو الجنوب أو البقاع.

قيادة العمق هذه هي التي يترجمها الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في تهديد الوزاني عام 2002 مثلاً بأنه بمجرد اتصال يصدر منه كقيادة مركزية، فإن المجموعات المعنية ستدكّ الأهداف المحددة خلال ثوانٍ.

جاهزية سرية

حزب الله يوجد أصلاً في الخفاء، صحيح أن هناك جانباً يراه العالم كله من هذا التنظيم، إلا أنه حتى ما يمكن رؤيته من الحزب وتحت أي مسمى (عسكري/ أمني/ مدني/ سياسي/ إعلامي) فيه أجزاء توجد في الخفاء، وما هو ظاهر منه هو بعد من صورة بتسعة أبعاد وليس ثلاثة، وكل العمل يتم بشكل سري بسيط، مثل: تجنب الخلوي، الاندماج بين الناس، تجاوز التكنولوجيا.

حتى على مستوى أعلى التراتبية القيادية، كان هناك إجابة عن سؤال «ماذا لو»؟

هذا الوجود الخفي والمحاط بالسرية، تواكبه جاهزية مرتفعة لأيام وأشهر وحتى لسنوات طويلة، وما حصل في تموز 2006، كان ثمرة جاهزية بدأ التحضير لها منذ اليوم التالي لتحرير الجنوب عام 2000، وتصاعدت هذه الجاهزية على المتسويات كافة من القيادة الى الكوادر، الأفراد، الصواريخ، البنية التحتية، الاتصالات، الأذرع كافة وليس انتهاءً بالجبهة الداخلية أو مجتمع المقاومة.

كل هذه المستويات تخضع لعملية تجهيز ضخمة بشكل سري، وتتضمن خطط احتياط لكل الاحتمالات، كما أنها قامت بمناورات ضخمة غير ظاهرة للعيان ومن دون أن يشعر بها العدو ولا الصديق، وخاصة على المستوى المدني الذي استفاد من تجربتَي 1993 و1996 وقام بتطوير ما يلزم لمواجهة التحديات، وكان عمله مركزاً على الأدوات والوسائل والمنظومة الداخلية، بعيداً عن الناس.

كيفية القيادة

إن المنبع الأيديولوجي لحزب الله يجعل العلاقة بين القيادة والفرد علاقة خاضعة لمبادئ ومعايير غير موجودة في الجيوش، وبالتالي ما تعتبره الجيوش أمراً عسكرياً، يترجم لدى الحزب ببعد عقائدي ولائي بحسب أدبياته، وعملية تطوير الفرد تخضع لرسم «البنيان المرصوص كأنه صف واحد». صحيح أن هذه أدبيات إسلامية، لكنها وجدت ترجمة عملية بحيث تقرر في عملية تطوير الفرد بأن تكون على قاعدة: إن الفرد يتخذ القرار الذي سيتخذه مسؤوله الأعلى في حال كان موجوداً في الموقف عينه، بحيث إن كل فرد يعلم كيف يقود وماذا يفعل، أي أنه لو كان في موقف ما بمفرده أو مع مجموعته وانقطع التواصل مع القيادة الأعلى، لوجب عليه أن يتخذ القرار المناسب، ويعمل كما لو أنه متصل بالقيادة، وهذا له شواهد، في تموز 2006، في المواجهات في القرى الأمامية مثل عيتا الشعب ومارون الراس وغيرها.

التفهيم: لم تبن المنظومة على أساس عمل الآلة. ففي الجيوش، بمجرد الانقطاع عن القيادة يؤدي ذلك الى التفكك وتنحى الألوية والأفواج الى الاستسلام، ولتجنب ذلك، فإن القيادة لدى المقاومة هي أيضاً «قيادة مفهومية» أي أنه من الأصل الكل يعرف ويفهم: ماذا وكيف وأين ولماذا ومتى، ويمكنه أن يشخص الصديق والعدو والمهمة والمحيط.

العقلية: هي اللجوء الى كل الوسائل التي يمليها العقل، تبرز هنا أهمية البقاء على التواصل وبكل الوسائل الممكنة، بدءاً من أكثر الوسائل بدائية (السير على الأقدام، إشعال النار، إرسال إشارات، جهاز المورس…) وليس انتهاءً بالهاتف السلكي وما هو أكثر تطوراً، وسلسلة المراتب العسكرية تتعلم كل هذا وتعرف بالضبط التراتبية أي من يعلم قبل الآخر، وفي حال العلم من يباشر العمل، وصولاً الى المراسلة الفيزيائية حيث توجد منظومة بشرية متكاملة جاهزة لتكون حلقة تواصل جاهزة، وعندما تقطعت الطرقات في 2006 تم اللجوء إليها، حتى على مستوى القيادات الأولى فقد تحركت باتجاه بعض المناطق من أجل الإفهام المباشر أو النقل المباشر أو الوصل المباشر لبعض الأعمال التي كانت تحتاج الى تشاور أو قرار قيادي.

كل هذا قام وتعزز بناء على معرفة تامة بأسلوب عمل العدو، حيث يلجأ منذ البداية إلى قطع الأوصال، فكل منهج القيادة والسيطرة أن لا يستطيع العدو تقطيع الأوصال، وبالتالي إيقاف عمل المنظومة.

لذلك برزت أهمية منظومة الاتصالات السلكية أو ما عرف لاحقاً بشبكة اتصالات المقاومة والتي عبّر عنها الأمين العام لحزب الله «بأهم سلاح كان لدينا في الحرب».

البدائل الجاهزة

لم يكن لدى حزب الله أي ضبابية بشأن البدائل في قيادته، وقبل الدخول في حالة الحرب كلها كانت مرسومة، لذلك أوجدت غرف عمليات مركزية عدة وغرف رديفة تشبه بعضها البعض، ويمكن أن تواصل العمل بشكل تلقائي في حال فقدان إحداها وفي أي مرحلة من مراحل الحرب.

حتى على مستوى أعلى التراتبية القيادية، كان هناك إجابة عن سؤال «ماذا لو»؟ بدءاً من ماذا لو استشهد أي قيادي مهما كانت تراتبيته، وليس انتهاءً بماذا لو دمرت كل المنظومة بمستوياتها كافة، عسكرية كانت أو غير عسكرية، لكل الاحتمالات كان البديل جاهزاً بحيث إن العمل لا يجب أن يتوقف إلا كما لو أن الأصيل تأخر دقائق عن عمله، وكل المستوى القيادي كان يتعامل مع هذه الاحتمالات ويعلمها ويمكنه التكيف معها وإكمال عمله.

حتى إن القاعدة التي عمل عليها الجميع هي معيار «أثر اغتيال السيد عباس الموسوي» على حزب الله، حيث أتاح ذلك وبسبب قفز إسرائيل عن الخطوط الحمر بأن تقفز المقاومة عن نمط معين كانت تراكمه بمستوى معين. الاغتيال أتاح لها تسريع وتيرتها وتصاعد العمليات في جنوب لبنان، بمعنى آخر أن ما اعتبرته إسرائيل إزالة مانع من وجهها، كان يزيل فعلياً ما تعتبره المقاومة موانع في طريقها في صراعها المفتوح مع إسرائيل.

وعلى غرار غرف العمليات المركزية، كان هناك بدائل وبدائل للبدائل، تعلّم حزب الله من تراكم تجربته، وأخذ العبرة من تجارب فقدان قادة ميدانيين، لذلك فإنه عمل على قاعدة تعدد غرف العمليات الميدانية ولامحدودية قادة العمليات ودوام الاتصال مع العمليات المركزية وفي ما بينها.

كما أنه ليس صدفة أن تتوسط «اليد التي تمتشق السلاح» راية حزب الله، هذه ترجمة وجدانية لقاعدة أصيلة انسحبت على كل مراحل المقاومة وهي : «عدم خلوّ اليد من السلاح في أي يوم وتحت أي ظرف». على ذلك، أوجدت البدائل للسلاح بمستوياته وأنواعه كافة، من الطلقة حتى الصاروخ، وتأمين الاستمرارية في ظل الاحتمالات كافة على قاعدة:

الحرب وما بعدها والحرب وإن طالت، وما بعدها بما يمكن أن يكون، بكل العناوين مع الأخذ بعين الاعتبار الآثار المتعددة الزوايا الممكن ترتّبها.

من هنا، نفهم عمل حزب الله المكثف بعد عام 2000 على بناء قدرته الصاروخية كماً ونوعاً والعمل بكل الطرق للحفاظ عليها، وإيجاد البدائل التي لا تخطر على بال العدو حتى ولو تضررت، وهذا أحد أسباب مرونة الحزب عند تلقيه ضربة الوزن النوعي وتحويلها الى «وهم نوعي» بداية حرب 2006 عندما حاول الإسرائيلي تدمير صواريخه المتوسطة المدى والبعيدة.

كيف عملت المنظومة خلال الحرب؟

عندما خرجت إسرائيل بحربها، وضعت أهدافاً تلخصت بثلاث نقاط: تدمير القدرة الصاروخية البعيدة المدى والمتوسطة، قتل الأمين العام السيد حسن نصر الله، وتدمير البنية التحتية للحزب، وبعدها سيكون سهلاً فرض الشروط السياسية التي تضمن مرحلة ما بعد حزب الله.

لكن المفاجأة كانت أنه خلال الساعات الأولى، استطاع حزب الله إفشال هذه الأهداف، وأبرز تماسكاً مذهلاً في منظومة القيادة لديه، وهذا ما عبر عنه السيد نصر الله في الذكرى الأولى للعدوان عام 2007: بأننا فاجأناهم بمنظومة القيادة والسيطرة لدينا طوال 33 يوماً. فكيف حصل ذلك؟

لم تتلقف إسرائيل رسالة حزب الله عندما استطاع أسر جنديين (عملية خلة وردة في عيتا الشعب) ووضعهما في مكان آمن وبعيد، من دون أن تدري قيادة المنطقة الشمالية بما حصل إلا بعد نحو 45 دقيقة. وبعكس ردة الفعل المتوترة للقيادة الشمالية حينها، فإن الهدوء الذي أبرزه السيد نصر الله في مؤتمره الصحافي بعد الأسر وهو يوزع رسائله في كل الاتجاهات أوحت بأن الرجل يتحكم جيداً بقواعد اللعبة، وفي الغالب هذه الثقة تستند الى معرفة ماذا لديه وكيف يعمل عدوه.

الوزن النوعي

سأل وزير الحرب عامير بيريتس: «ما هي قدرتنا على إسكات صواريخ حزب الله باتجاه حيفا والخضيرة»، فأجابه رئيس الأركان دان حالوتس «لدينا القدرة». هذا الجواب أدى الى المصادقة على عملية الوزن النوعي التي كانت تهدف الى القضاء على ترسانة صواريخ حزب الله بواسطة سلاح الجو، استناداً الى مجموعة معطيات صنفتها الاستخبارات الإسرائيلية بـ”الدقيقة جداً».

الساعة 5:35 من فجر اليوم الثالث عشر من تموز، أقلعت أربعون طائرة حربية تابعة لسلاح الجو الإسرائيلي محملة بقنابل ذكية من طراز «جيدام». تمتاز هذه القنابل الأميركية الصنع بدقة إصابتها نتيجة استقائها الإحداثيات عن الأهداف من الأقمار الصناعية. بدأت الطائرات، واحدة تلو الأخرى، بإصدار إشارات «ألفا» والتي تعني بلغة الطيارين أن الصواريخ حققت أهدافها بدقة. كان هذا المشهد يتراءى لدى القادة العسكريين بشكل مباشر من غرفة القيادة التابعة لسلاح الجو. وقف نائب رئيس هيئة الأركان موشيه كابلنسكي وقال: «إنهم لم يكونوا يعلمون مدى اختراقنا لهم».

أربع وثلاثون دقيقة وانتهى الهجوم. اتصل حالوتس برئيس الوزراء إيهود أولمرت معلناً: «لقد ربحنا الحرب» ظناً منه أن العملية دمرت حوالى 54 منصة ثابتة ومتحركة، وبالتالي أمكن القضاء على المئات من صواريخ فجر 3 و5. اعتبرت القيادات العسكرية ووسائل الإعلام الإسرائيلية أن مسألة سحق حزب الله نهائياً هي مسألة وقت فقط.

من المنظور الإسرائيلي، «تضعضعت» قيادة المقاومة، و«هرب» نصر الله الى دمشق، أما الواقع فكان مختلفاً تماماً.

تقدير الموقف

نهار الأربعاء في 12 تموز 2006، وفي ظل الرد المباشر على نيران العدو على المواقع الأمامية، اجتمع قادة حزب الله العسكريون للتقويم وللوقوف على الجاهزية وتحضير إجابات عن سؤال: ما هي الخطوات التالية؟ حصل ذلك قبل ساعات من عملية «الوزن النوعي».

بعد العملية، عقدت قيادة المقاومة «جلسة تقدير موقف». الأمين العام لحزب الله حضر شخصياً، وهو الهدف الأول للضربات في ذلك اليوم، القيادة العسكرية حضرت، كان هناك أيضاً في الاجتماع المعنيون اللازم حضورهم، اجتماعهم كان رداً مناسباً على الادعاء الإسرائيلي بأن حزب الله بات في خبر كان، وتجلياً لتماسك منظومة القيادة والسيطرة لدى المقاومة.

تركز النقاش في الاجتماع على سؤال: ماذا الآن؟ القيادة العسكرية كانت قد جهزت إجاباتها الكافية عن الأسئلة كافة، الهيئات المدنية باشرت أصلاً عملها منذ أول طلقة اعتداء على لبنان، إعلام الحزب كان مواكباً لكل ما يجري، وعليه كان النقاش في رسم المسارات على الشكل الآتي:

أولاً، اعتبار أن الخطوات التي أقدم عليها الإسرائيلي حتى الآن هي ردود فعل على عملية الأسر. تمثلت بتطبيق خطة «البعد الرابع»، وهي هجوم واسع على مواقع لحزب الله في كل أرجاء الجنوب اللبناني، كذلك هدم كل الجسور القائمة فوق نهر الليطاني.

ثانياً، الاستمرار بالرد المباشر على المواقع الحدودية على كل من ردات الفعل تلك، بالمستوى الموازي لها، بحيث يردع العدو من دون تصعيد.

ثالثاً، الدعوة الى التروي وعدم الانفعال.

رابعاً، تحديد خطط المواجهة في حال تطور ردات الفعل.

خامساً، تحديد السقف السياسي اللازم، مع التمسك بعدم تفجير الوضع الداخلي ولا الحكومة، مع التأكيد على أن لبنان في حالة المعتدى عليه.

لم يكن حزب الله في هذه الجلسة يعتبر أن قرار الحرب قد اتخذ حتى اللحظة، ورغم ذلك رسم خطوطاً عريضة على الصعد كافة (عسكرياً / ميدانياً / أمنياً / مدنياً / إعلامياً / سياسياً) لمواكبة تطور الأمور في حال التدحرج الى حرب، وقدّر أنه في حال حصول الحرب فإنها لن تكون أقل من شهر ولن تستمر لأكثر من شهرين.

أُخذ القرار برفع الجاهزية على جميع الصعد في الجبهات البرية والبحرية والجوية. كما تم العمل على إخلاء المنازل توقعاً منهم لما قد يقوم به العدو من ردات فعل على البيوت. هذا العمل المبرمج، كان قد اختصره السيد نصر الله في المؤتمر الصحافي بعيد عملية الأسر بقوله: «نحن هدفنا مما جرى أسر جنود والمبادلة، ولا نريد أخذ المنطقة إلى أي حرب، أما إذا كان العدو يريد تدفيع لبنان الثمن، فنحن مستعدون للمواجهة».

«مستعدون» كانت تشمل المستوى المدني الى جانب العسكري، فبدأوا باستقبال النازحين من الجنوب والضاحية والبقاع، وحتى الاهتمام بالعوائل الذين قرروا أو اضطروا إلى البقاء في القرى الأمامية والخلفية وبعض أحياء الضاحية الجنوبية.

كانت قد وضعت برامج وخطط عمل تقسم المعتدى عليهم الى صامدين ونازحين، وكانت قد رسمت مربعات نزوح في مناطق لبنانية عدة ووضع مسؤولون لها يعرفون مهماتهم التي قاموا بها تلقائياً منذ اللحظة الصفر.

انظروا إليها تحترق

حين أنهى الإسرائيلي عملية «الوزن النوعي»، اعتبر أن حزب الله لن يكون قادراً على الرد على الهجمات اللاحقة. تابع هجومه باستهداف المدنيين وتدمير المباني ومقار قيادة حزب الله ضمن مربعه الأمني وأكمل بعنجهية المنتصر انتشاره البحري أمام شواطئ لبنان، كان هذا بمثابة إعلان غير مباشر «إن الحرب قد بدأت».

نهار الجمعة، صدرت الأوامر في المقاومة الإسلامية بالرد على القطع البحرية التي تعتدي على الضاحية وتجوب قبالة سواحل بيروت. المجاهدون يترصدون تلك السفن، حان موعد المفاجأة الأولى، تتوارد أخبار عن إطلالة للسيد نصر الله، عند نحو الساعة 8.45 من مساء ذلك اليوم، كانت البارجة «حانيت» تصل الى نقطة مناسبة. بالتزامن، كان السيد يكمل خطابه، أبلغ قائد العملية البحرية الذي كان على تماس لحظوي مع المقاومين أن الهدف بات في «مرمى صواريخنا» وأنها النقطة الأمثل للإصابة، أعطي المقاومون الإذن بالرمي، فانطلقت صواريخ صينية مضادة للسفن من طراز C – 802. فور التأكد من إصابة الهدف، أبلغ السيد الذي أعلن مباشرة على الهواء: «المفاجآت التي وعدتكم بها، انظروا إليها تحترق…»

حزب الله، في تجاربه على طول سنوات الحرب مع عدوه، اعتمد على المفاجآت، التي لا تتحسبها العقلية الإسرائيلية. إهمالهم على هذا الصعيد، جعل المقاومة تسبقهم بخطوات في هذا المجال، وتجلى سريعاً بضرب «حانيت»، «درة تاج» سفن الصواريخ الإسرائيلية، من عائلة «ساعر 5». وبحسب الادعاء الإسرائيلي، فإن طاقمها لم يعمل على تشغيل نظام رصد ومراقبة الصواريخ، ولا على تشغيل الدفاعات الصاروخية الموجودة على السفينة آلياً للتصدي لأي هجمات محتملة آتية لأنه لم يخطر ببالهم أنه يمكن تنفيذ أي عملية كهذه من قبل حزب الله.

قُتل العديد من أفراد الطاقم، وتمت العملية من دون أن تتمكن تقنيات الجيش الصهيوني من كشف مجموعة منفذي العملية أثناء تموضعهم أو أثناء انسحابهم، رغم امتلاك التطور التقني الهائل وطائرات الاستطلاع والأقمار الاصطناعية… عملية البارجة كانت لوحة متكاملة عن منظومة القيادة والسيطرة لدى المقاومة بمختلف مستوياتها.

إلى حيفا… وما بعد بعد حيفا

قصف البارجة شكل صدمة قاسية على الكيان الإسرائيلي، وكان يمكن أن تردعه لأنها كانت «إشارة واضحة الى أننا نعاقب الذين يقصفون مدننا وبنانا التحتية»، كما عبر السيد نصر الله، إلا أن قرار الاستمرار بالحرب هنا كان ــــ كما علمت المقاومة ـــــ أميركياً بغطاء عربي. تمادى العدوان الصهيوني من دون أن تتوقف آلة القتل المجنونة عن صبّ جام غضبها على الضاحية وقرى وبلدات الجنوب والبقاع، غافلة عن ردة فعل المقاومة. هنا أخذت المقاومة الإسلامية قراراً تصعيدياً بقصف أهداف محددة مسبقاً في مدينة حيفا، بصليات من صواريخ طراز «رعد 2» و«رعد 3». لم يفاجأ الإسرائيلي فقط بضرب محطة القطارات في حيفا وإصابة عشرات الإسرائيليين بين قتلى وجرحى، بل إن استهداف حيفا بهذه الطريقة نعى رسمياً «الوزن النوعي».

كانت المقاومة قد اتخذت التدابير التي جنّبت بنيتها وأسلحتها أي ضربة مباغتة إسرائيلية مدمرة.

صواريخ «دليفري»

إدارة القوة الصاروخية في تلك الأيام، أبرزت قيادة العمق التي تعمل منظومة القيادة من خلالها. بعد ضربة حيفا، أمعنت صواريخ المقاومة بإيلام إسرائيل وجبهتها الداخلية، عملية التنظيم واستمرارية الإطلاق جعلت القادة الإسرائيليين يعترفون بالعجز أمام ما يحصل.

في مقلب المقاومة وما لا يعرفه عدوها هو أنها منذ اليومين الأولين، تمت برمجة قدرة المقاومة النارية للذهاب بعيداً ولتأمين استمرارية الرمي لأشهر على قاعدة الحرب وإن طالت والحرب وما بعدها.

في موازاة ذلك، كانت هذه الصواريخ «دليفري». وتيرتها اليومية في تصاعد أو تنازل مدروس بناءً على ما تطلبه القيادة ممثلة بالسيد نصر الله. وخلال لحظات، كانت الرميات تطلق على الأهداف التي تحددها قيادة المقاومة. هذه العملية لا تشبه ما يحصل عادة في الجيوش الكلاسيكية، حيث تعمل القوة الصاروخية فيها من خلال ميدان رماية توجد فيه الراجمات، أما في حالة حزب الله، فلا ميدان رماية بل هي راجمات مبعثرة منتشرة في مناطق متقاربة ومتباعدة في آن، وفي ظروف جغرافية صعبة وفريدة، وعند طلب القيادة لعشرات الصواريخ فهي لا تنطلق من نقطة واحدة ولا حتى من نقاط متقاربة، وهذا أصل من أصول الرماية. بل إن صلية تنطلق من نقطة «أ» وأخرى من نقطة «ي» وثالثة من نقطة «د» في وقت واحد.

ومع تمادي العدو في اعتداءاته، دخلت صواريخ المقاومة الإسلامية مرحلة ما بعد حيفا، وسقطت صواريخ من طراز «خيبر» للمرة الأولى في مناطق قريبة من العفولة والناصرة العليا وجفعات إيلا، وهذا ما أحدث الصدمة لدى إسرائيل.

التماسك في المنظومة برز أيضاً عند التوصل الى هدنة مؤقتة. في لحظة واحدة، توقفت كل الراجمات عن الرمي مع المحافظة على سلامة المنشأة والرامي، وهي نفسها عادت الى العمل خلال لحظات من طلب القيادة بعد انتهاء الهدنة.

العملية البرية

«نحن ذاهبون إلى معركة بالنار»، هكذا حسم حالوتس النقاش الدائر حول ضرورة بدء العملية البرية. لم يكن يعي حالوتس أول رئيس لأركان الجيش الإسرائيلي يأتي من صفوف سلاح الجو، أن قيادة الحرب على الأرض تختلف عن قيادة الطائرة. لذلك اعتبر أن «مياه الأعالي»، وهي الخطة التي تقتضي بالتوغل في جنوب الليطاني للسيطرة على مناطق إطلاق الصواريخ وضرب البنية العسكرية لحزب الله، أمر يسير. وكان لديه ثقة كبيرة في أن مسألة السيطرة على مواقع حزب الله عند الحدود يمكن أن تنفذها جرافة طراز «دي – تسعة»، بحسب تعبيره في أحد الاجتماعات.

خطط احتياط لكل الاحتمالات، ومناورات ضخمة غير ظاهرة للعيان ولا يشعر بها العدو أو الصديق

في المقابل، اعتبر حزب الله أن قرار التوغل البري فرصة للنيل من جيش العدو، وسيعطي المقاومة فرصة أوسع وأكبر في الاشتباك المباشر لاستنزاف جنود الاحتلال، بدلاً من أن يبقى مختبئاً خلف حصونه التي لطالما اعتقد أنها تخفي تحركاته عن المقاومة.

الواقع كان عكس ذلك، إذ قرأت المقاومة، كما كانت تفعل دائماً، حركة الإسرائيلي بناءً على مسار المعركة والتي ظنها خفية عن المقاومة؛ تم التشخيص أن حركته تقليدية، وبمراقبة دقيقة له ضمن جغرافية لبنان المحدودة التي تشكل نقطة ضعف له يمكن التعامل معه بخطوات استباقية، وخاصةً أن الإسرائيلي لديه منظومة شجاعة، لكنه كفرد يعتمد على المنظومة المتكاملة: تغطية جوية، معلومات مسبقة، واستخبارات مساندة. وإذا ما ضُرب عنصر من عناصر هذه المنظومة، يضعف هيكل الجيش بأكمله.

ولأن حزب الله يرى أن أسهل الصيد هو صيد الفيلة حين تكون في الحقل المناسب، وأنه هو من يملك الأرض، ارتأت قيادة المقاومة القيام بمواجهة عكسية واعتماد أسلوب المواجهة المباشرة في القتال حيناً، والالتفاف حيناً آخر، على مبدأ عدم التمسك بالأرض وعدم تركها. وهو ما يختلف عن كل التقنيات وأساليب قتال العصابات القائمة على مبدأ «تجنب المواجهة المباشرة».

أثقلت القوى المتسللة بالخسائر الجسيمة في كل مرة حاولت فيها التقدم، فقد كانت كل القرى الحدودية، التي شهدت تلك المواجهات محطات إذلال للجيش الإسرائيلي، لمشاته وآلياته ومدرعاته وحتى طائراته. وحين قرر الإسرائيلي إعادة الاعتبار في عملية برية واسعة، كانت هذه فرصة لتدمير كل ما تبقى من هيبة الجيش، بدايةً من سهل الخيام حيث تعرض لنكسة كبيرة على امتداد الجبهة البرية من البياضة غرباً، حتى بنت جبيل وعيناثا وسطاً، قتل أكثر من 30 جندياً، بينهم ضباط وقادة سرايا، ثم حين تلقى درساً أسطورياً من صائدي الميركافا في وادي الحجير، وبتدمير حوالى خمسين دبابة ميركافا، وصولاً الى صدمة إنزال طائرة «يسعور» في ياطر. هذه الصدمات المتتالية جعلت الإسرائيلي يتيقن أنه لم يعد قادراً على المواجهة.

تقررت نهاية الحرب في 14 آب 2016. في ذاك الصباح، بقيت المقاومة في أعلى درجات الجاهزية. صاحبة الطلقة الأخيرة كما على مر تاريخها العسكري، أخذت قراراً، ببدء العمليات من جديد على من تبقى من الجيش الإسرائيلي في الجنوب إذا ما حاولوا منع الناس من العودة الى بيوتهم. الساعة 7.45 صباحاً، أوعزت قيادة المقاومة الى جميع الوحدات العسكرية على الأرض بإيقاف إطلاق النيران من أي سلاح، خفيفاً أو ثقيلاً؛ ولو رأى أحد جندياً إسرائيلياً يُمنع إطلاق النار. حصل ذلك في غضون دقائق، الجسم العسكري بأكمله أوقف عملياته الحربية بتوجيه من قيادة المقاومة، لتكرس القيادة في هذه الحرب نموذجاً جديداً في فنون القيادة والسيطرة سبقت به جيوشاً عالمية لتكون تلك أكبر مفاجآت حرب تموز.