الخبر وما وراء الخبر

التاريخ يصنع وعينا (1)

58

بقلم / حمود الاهنومي

في التاريخ عبر ودروس تعطينا مزيدا من الوعي والبصيرة، وتاريخنا الثوري الجهادي في مواجهة الغزاة مليء بالمحطات التي سجَّل فيها آباؤنا دروسا غراء في الحرية والكرامة والعزة، تليق بيمانيتهم، وإيمانهم، ورجولتهم، وحريتهم، وكرامتهم، ولم يوحِشْهم قلة عددهم، كما لم تُضعِفْهم قوة أعدائهم، ولا كثرة عتادهم.

في هذه السلسلة من (التاريخ يصنع وعينا) نستعرض أحداثا تاريخية، نحاول أن نسلِّط عليها ضوء الاستبصار، لنأخذ منها الاعتبار، بما يعزِّز واقعنا الجهادي المشرق، وتضحيات أبناء يمننا الإيماني المونِقة.

في التاريخ الحديث احتل الأتراك اليمن، وكانوا من أقوى الغزاة الذين أخطأوا طريقهم، وضلوا في مسيرهم، فرمى بهم سوء القدَر والحظ التعيس إلى اليمن.

كان الأتراك أقوياء بقوة دولتهم الذاتية، واستبسال مقاتليهم المدربين الأشداء، لكنهم كانوا في اليمن يظلمون الناس بغير الحق، وينتهجون الفساد كطريقة حكم، ويمارسون التوحش كأسلوب إدارة، فلم يهدأ لآبائنا اليمنيين بال حتى نكَّلوا بهم، وطردوهم، ونالت اليمن بذلك لقب (مقبرة الغزاة)، و(مقبرة الأتراك)، و (مقبرة الأناضول).

سنقف اليوم مع محطة معركة الشاهل التي وقعت في يوم السبت 8 جمادى الأخرى سنة 1316هـ الموافق 29 أكتوبر 1898م، حيث كان اليمنيون يخوضون معركة التحرر والكرامة والعزة ضد أولئك الغزاة المحتلين، والولاة الظالمين، تحت قيادة الإمام المنصور بالله محمد بن يحيى حميد الدين .

وصلت جيوش الأتراك إلى مدينة الشاهل، التي سبق وأن فتك رجالُ الشرفين فيها فتكا ذريعا بالغزاة ومرتزِقتهم، في هذه المرَّة جاءت إمداداتٌ جديدة، توجَّه قسم منها إلى الشاهل، بلغ عددُهم حوالي 6000 مقاتل، وكان هناك عدد قليل من المجاهدين اليمنيين موجودين في قرية الفصيح، لا يتجاوز عددهم الـ 25 مجاهدا في بداية الأمر، ثم تلاحقت طلائع المجاهدين ربما إلى بضع مئات، لكنَّ مدار المعركة دار على حوالي 50 مجاهدا فقط.

انقضَّ الأتراك على قرية الفصيح بأسلحتهم النارية، فالتحم بهم المؤمنون التحاما مباشرا، وأصدقوهم طعنا بالجنابي التي كانت أعظم سلاحهم، وحينها أدركوا أنهم وقعوا بين مخالب الأسود، فأرادوا الفرار، لكن خلفياتهم وقياداتهم كانت تضربهم بالسيوف، وبالمدفعية، فكانوا بين نارِ المجاهدين، ونارِ قياداتهم، فلم يسعهم سوى الفرار من الموت إلى التقحُّم في شعابه.

أخيرا .. انجلت المعركة عن مقتل ما يقارب 400 قتيل من الأتراك، وعن 130 جريحا منهم، واغتنام 100 بندق، واستشهد من المجاهدين 12 شهيدا، وجرح حوالي 40 جريحا، وكل ذلك بفضل الله وعونه.

من خلال هذه المحطة .. يتبين لنا اليوم أن المدافع عن دينه ووطنه أقوى وأشجع، وأن الغزاة – على إمكاناتهم الكبيرة وقدراتهم القوية – ضعفاء وواهنون، ومهزومون، ما دام هناك رجال يحملون راية الحرية والكرامة، ويصدقون الله ما عاهدوه عليه، كما يتضح أن ما نراه اليوم من هزيمة جحافل الغزاة والمرتزقة على أيدي رجالٍ قليلين ليس غريبا على أبناء هذا القطر الميمون، بل هو تاريخ مشهود، وسلوك معهود، مضى عليه الأولون، وعلى إثرهم يأتي الآخرون.

كما أن الإيمان بالله وبالقضية التي يتحرك من أجلها المؤمنون هو أقوى سلاح، تعجز عن النيل منه كل الأسلحة المتطورة والفتاكة، فجنابي المؤمنين البيضاء كانت أقوى من أسلحة القوم المعتدين النارية.

ويتأكد أولا وأخيرا .. أن الله مع المتقين في نهاية المطاف، وأن الله ناصر عباده المستضعفين، وصدق الله القائل: (إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ).