العرب والقدس.. سقى الله أيام الشجب والتنديد!
كثيرة هي النكبات والنكسات في التاريخ العربي المعاصر، ذلك خبر سيئ لا شك، لكن الخبر السعيد أن العرب لم يقفوا يوما صامتين، فقد كانوا يردون على الاعتداءات: بالشجب تارة وبالإدانة والاستنكار تارة أخرى. ليس هذا فقط، ففي الخطوب الجلل كان يمكن للعرب أن يصلوا إلى درجة التنديد بل التهديد بالرد في الوقت المناسب.
والشجب في اللغة قريب من الاستنكار، وكلاهما نوع من النقد الحاد، أما التنديد فهو التصريح بالعيوب والتشهير بأصحابها، والإدانة تنصرف إلى الاتهام أو إثبات التهمة؛ وكلها ألفاظ لا تنطوي معانيها على أي “فعل” يرد الظلم أو يوقف العدوان.
كانت “إسرائيل” على مدى عقود هي العدو الأول، والمعتدي الأكبر على العرب وأرضهم، فاحتلت فلسطين وابتلعت أرضها إلا قليلا، واحتلت أراضي سورية ومصرية، وفرضت نفوذها وسطوتها على القريب والبعيد، فكان نصيب العرب منها نكبة ثم نكسة مع كثير من صفحات الانكسار والهزيمة وقليل من صفحات نصر تصدرتها حرب أكتوبر 1973.
ورغم أن المقارنة تبدو فكاهية بين وطن عربي مساحته تقترب من نحو 14 مليون كيلومتر مربع وتعداد سكانه يتجاوز الأربعمئة مليون نسمة، وبين كيان صغير مغتصب يحتل نحو 20 ألف كيلومتر مربع ويقل سكانه عن تسعة ملايين نسمة؛ فإن الواقع الأسود يشير إلى أن التجاوز والعدوان كان يأتي من الطرف الأصغر، بينما العملاق العربي يكتفي بالشكوى شجبا واستنكارا وإدانة.
في كل اعتداءات “إسرائيل” على فلسطين وعلى الدائرة الأقرب في سوريا ومصر ولبنان، وحتى أبعد من ذلك بطرق مختلفة؛ كان قادة العرب ومسؤولوهم يشجبون ويدينون، وهو ما أثار حنق الشعوب فعكس الإعلام ومواقع التواصل هذا الحنق، بينما انعكست عبر النكات حالة من السخرية من هذا العجز الذي دفع الحكام للاكتفاء بالكلام المرسل دون الفعل المؤثر.
لكن ربما لم يدر بخلد المواطن العربي أنه قد يعيش أياما نحسات، يشتاق فيها لما كان يسخر منه، فيصبح الشجب عملة نادرة ويصبح التنديد من المحال، ويكون الاستنكار بعيد المنال.
وكأنه ذنب أن تدافع عن وطن محتل وحرية سليبة، وكأنها جريمة أن يخرج شعب في ذكرى نكبته ليقول للبعيد -والقريب أيضا- إنه ما زال يتمسك بأرضه التي بدأ العدو قضمها منذ سبعين عاما وما زال يواصل احتلالها واستيطانها حتى يوشك ألا يبقي فيها ولا يذر.
فقد خرج الفلسطينيون تذكيرا بمأساة وطنهم المحتل، وتمسكا بأمل العودة إلى الأرض والديار، ودفاعا عن العاصمة المقدسة التي تتداعى عليها قوى الشر والجبروت لتكمل افتكاكها من أصحابها، أو هكذا تظن. وكانت النتيجة أن المعتدي استكثر على ضحيته حتى الغضب، فأطلق نيرانه ليقتل العشرات ويصيب الآلاف.
ستون شهيدا فلسطينيا راحوا ضحية مجزرة دامية ارتكبها الاحتلال “الإسرائيلي” ضد المتظاهرين الفلسطينيين عند نقاط التماس شرقي قطاع غزة، بينما كانت إسرائيل تحتفل وتنتشي بنقل الولايات المتحدة سفارتها من تل أبيب إلى القدس تنفيذا لقرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وتدشينا لعهد تكشف فيه واشنطن وجهها لتبدو صهيونية أكثر من الصهاينة.
اهتز العالم -أو تظاهر بذلك- إزاء هول المأساة. دول غربية اشتهرت على الدوام بدعمها لإسرائيل عبّرت عن غضبها أو حتى امتعاضها من هذه المجزرة، حتى بريطانيا صاحبة وعد بلفور الذي فتح الباب أمام إقامة الكيان الإسرائيلي أواسط القرن الماضي، عبرت عن قلقها من فقدان الأرواح في غزة، واعتبرت أن نقل السفارة الأميركية لا يساعد على السلام في المنطقة.
تركيا كانت الأقوى ردا عندما قررت استدعاء سفيريها لدى واشنطن وتل أبيب، ووصفت إسرائيل بأنها إرهابية تمارس الإبادة، وأعلن رئيسها أردوغان الحداد الوطني لثلاثة أيام.
كما خطفت جنوب أفريقيا -وهي ليست دولة عربية أو مسلمة- الأضواء بإعلانها استدعاء سفيرها لدى إسرائيل، احتجاجا على إطلاق النار على المحتجين في قطاع غزة.
أما على الصعيد العربي، فقد ثقُل الشجب على كثيرين رغم خفته، واكتفت دول قليلة ببيانات استنكار وإعلانات قلق بدت وكأنها إبراء للذمة، وجمعت قائمة الشاجبين بين صادق يشكو قلة حيلته، وكاذب تنكر لعروبته ومروءته.
أما من كان يؤمل قديما في اجتماع قمة يتداعى له العرب عند الشدائد والملمات، فله أن يعرف أن جامعة الدول العربية اكتفت بالدعوة إلى اجتماع “غير عادي” على مستوى المندوبين الدائمين، وهو أدنى المستويات الممكنة؛ على أن يعقد غدا الأربعاء، أي بعد انتهاء الحدث وجفاف نهر الدماء!
وللمؤمل أيضا أن يعرف أن القمة العربية الأخيرة التي استضافتها السعودية الشهر الماضي، حملت اسم “قمة القدس”، وله أن ينظر في نتائجها.
فيما مضى، كان القادة يحجمون ويتقاعسون ويكتفون بالشجب، بينما كانت الشعوب في معظمها تتحرك ولو بالتظاهر أو الوقفات الاحتجاجية على أضعف الإيمان؛ أما هذه المرة فقد انضمت الشعوب إلى قائمة الغائبين عن الساحة، وإن اكتفى البعض بتسجيل حضور افتراضي في مواقع التواصل الاجتماعي. فهل أخفت كل سلطة شعبها أم أخافته؟ وهل تعب الناس أم قنطوا، أم أنها غفوة ما قبل الاستيقاظ؟!
المصدر : وكالة القدس للانباء