الحياة في رياض الشهداء
أنس القاضي
تنتظم قبور الشهداء في اشكال هندسية جميلة تُحاكي جمال تصورنا لهم، وجميل فعلهم، ومِخيالنا البشري عن شكل فراديس علوية يقيمون فيها، وعلى عكس العتمة التي تُصيب القلب عند زيارة مقابر الموتى ففي رياض الشُهداء راحة نفسية وجمالية تحطم فكرة الموت وتزين معنى الخلود، بزهور تُسقى بماء الإمتنان كُل صباح.
في رياض الشهداء تنعكس وطنية القضية
على العكس من دعايات قوى العدوان التي تسعى لتصوير المعركة الوطنية التي يخوضها الشعب اليمني منذ ثلاثة أعوام كحرب طائفية او مناطقية او شطرية، وبرغم وجود هذهِ العصبيات كموجهات لدى الطرف الموالي لدول التحالف وهي عصبويات أورثتها اشكال سيطرة النظام السابق وتنفخ فيها المملكة الوهابية السعودية؛ يتجلى بوضوح البعد الوطني للمعركة التي يخوضها أبطال الجيش واللجان الشعبية في رياض الشهداء التي تضم جثامين مختلف اليمنيين الذين استشعروا مسؤولية الدفاع عن الوطن، حيث تبرز من هويات الشُهداء التركيبة الوطنية لأبناء الجيش اللجان الشعبية، الذين يجسدون الوحدة الشعبية، وهم من مناطق ومذاهب وأحزاب وقبائل وأعراق متعددة من كل ربوع الوطن اليمني.
رياض أحياء لا مقابر موتى!
تفصل رياض الشُهداء عن مقابر الموتى في الواقع، كما ي الحدود المرسومة من حيث الفلسفة القرآنية، فالشهداء “أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ”، هذه الحياة الأبدية التي تميز الشهداء تجعل من غير الاخلاقي دفن رفاتهم بجانب الموتى، وهذه الميزة هي في ميزة القضية التي ضحوا من أجلها، وهي في واقعنا اليمني قضية التحرر من العبودية الاستعمارية والوصاية الاجنبية، والدفاع عن المستضعفين وعن وطنهم من جيوش ملوكِ رجعيين وإستعماريين إذا دخلوا مدينة يمنية أفسدوها. وبحسب تعبير قائد الثورة السيد/ عبد الملك الحوثي في الذكرى السنوية للشهيد 2018م فإن “الشهيد له مبدآ له قضية، له أخلاق له أهداف وهو ينطلق على أساس من تلك القضية، فيضحي وهو يحمل تلك القضية، هذه القضية يعبر عنها في أنها قضية عادلة وفي أنها قضية مشروعة”.
الاهتمام بالشهداء وفاء للقضية
يعكس الاهتمام بالشهيد اهتمام بالقضية التي ضحوا من أجلها، ومواصلة لدربهم الذي اختاروه عن قناعة راسخة، كأصحاب قضية، عادلة، قضية الحق والعدل والحرية الوطنية، هذا التقليد الذي كان محصوراً على انصار الله في الاحتفاء بشهدائهم طوال الحروب الست، اصبحِ إهتماماً وطنياً عاماً تخليداً لشهداء الوطن اليمني، ففي هذا الاسبوع بشكل خاص تتحرك جموع الزوار إلى رياض الشُهداء لزيارة الشهداء من الاقرباء وغيرهم في مواكب مهيبة تحضرها الشخصيات والوجاهات وقيادة الدولة والثورة والمؤسسات الامنية والعسكرية، يجددون العهد على المضي في دربهم.
وفي تاريخنا اليمني كان هناك يوم مخصص وفاءً للشهداء وعيداً وطنياً، في جمهورية اليمني الديمقراطية الشعبية سابقا، وهو يوم 11 فبراير، الذي جاء تخليداً لاستشهاد المناضل الأكتوبري مهيوب غالب الشرعبي ذو الاسم الحركي (عبود) الذي استشهد في يوم السبت 11 فبراير 1967م ، في مواجهة الاستعمار البريطاني وهو احد القادة العسكريين للجبهة القومية التي قادت ثورة الرابع عشر من أكتوبر المجيدة.
تُشرف على رياض الشهداء مؤسسة الشهداء الغير حكومية، وبحسب المسؤول التنفيذي في مؤسسة الشهداء عبد السلام الطالبي، الذي تحدث إلى وكالة (سبأ) يفوق عدد روضات الشهداء أكثر من ثلاثة مائه روضة موزعة على عموم محافظات الجمهورية اليمنية، ما يستدعي الأمر الاهتمام الشامل لها من تسوير وتزيين وتشجير وتوفير المياه والأضرحة والصور والأحجار وكذلك الاسمنت وغيره. وبحسب الطالبي يُباشر العمل في هذه الروضات كوادر متطوعة تعمل ليلاً ونهاراً وتواكب لعمل أولاً بأول، يقابل ذلك كلفة باهظة تضطر المؤسسة إلى مواجهتها وتغطية احتياجاتها من التبرعات الشعبية.
يقصفون مقابر الشهداء
يقصفون مقابر الشهداء، هذه الصورة المجازية المبالغة التي الشعرية قدمها الشاعر الفلسطيني محمود درويش لوصف عدوانية الجيش الصهيوني وعجزه عن قهر المقاومة في اجتياح بيروت في ثمانينيات القرن الماضي، هذهِ الصورة في اليمن واقعية يمارسها تحالف العدوان منذ بداية التدخل العسكري الاجرامي مطلع العام 2015م.
ففي يوم الجمعة الثامن من مايو استهدف طيران العدوان ضريح مؤسس حركة أنصار الله الشهيد حسين الحوثي، وفي يوم الاثنين 25 مايو 2015م، أستهدف طيران العدوان السعودي الامريكي محافظة مناطق متفرقة من محافظة صعدة بسبع غارات، كان من بينها استهداف روضة الشهداء بمنطقة المرازم بعدة غارات.
وفي منتصف يناير هذا العالم، استهدف طيران العدوان السعودي الامريكي روضة الشهداء في منطقة الحمزات التابعة لمحافظة صعدة بينهم قبر الشهيد الإعلامي صلاح العزي. وأوضح مصدر أمني لوكالة (سبأ) حينها، ان طيران العدوان شن غارة على روضة الشهداء بمنطقة الحمزات بمديرية سحار أدت إلى تدمير وتضرر عشرات القبور في الروضة.
قصة حُزن ومجد واعتزاز
يتحدث وجدي الصراري أحد زوار رياض الشهداء لوكالة (سبأ) عن صديقة الذي يمثل واحداً من آلاف الشهداء الذين ضحوا في سبيل حُرية الوطن ويتقاسمون القيم العليا السامية.
: “أنا أزور صديقي دائماً و اتحدث معه، كان بالنسبة لي أكثر من مجرد صديق أو أخ هو أيضاً أكثر الناس الذي عرفتهم قدرة على التضحية من أجل الناس ومن أجل سعادة الآخرين حتى لو كان هذا على حساب حزنه وقهره هو. حين ارى ضريحه أشعر بغصة في قلبي فأذرف دموعاً أعرف جيداً انه لا يحب ان يراها لكنه رغم كل شيء أصبح النسبة لي مثلاً أعلى ارى فيه أجمل السمات الانسانية في اعلى تجلياتها، عندما ازور صديقي (زيد) وارى بجانبه صور الكثير من الشهداء، أقول في نفسي هؤلاء الشهداء غصة وخسارة في قلوب عشرات الناس كمان هو زيد غصة في قلبي وفي قلوب أهله ومحبيه”.
ويضيف الصراري “الشهداء يصبحون جزءاً من تاريخ البلد وتاريخ البشرية تماماً كما كان المحاربون القدامى لأنهم من يحدثون الفارق في الحياة بتضحياتهم وهذه النفسية و التضحية التي ينتجونها في الارض هي ما تنعكس عليهم في قبورهم وتحولهم قضايا وأفكار لا تموت، لقد علمني زيد هذه الحقيقة فالسلام على روحه وعلى أرواح كل الشهداء و المناضلين من أجل القضايا الحقة و الغد المشرق للأرض و الانسان” .
ويحكي الصراري قصة حدت معه في أحد رياض الشهداء في منطقة الجِراف في امانة العاصمة:
“في أحد الايام وأنا أزور صديقي في الروضة رأيت امرأة تبكي على ضريح شهيد كان يبدو جديداً، كانت الام تبكي ابنها الشهيد بحرقه، اقتربت المرأة مني و بدأت تحدثني عن ولدها عن محاسنة عن أخلاقه عن بعض صفاته ومشاغباته عندما كان صغيراً لقد استرسلت كثيراً في حكاية تفاصيل صغيرة لا يمكن أن يلم بها إلا أم محبة لأطفالها عندما انتهت قالت لي (وهذا من هو ؟ أخوك ؟) قلت لها هذا (زيد غمضان) الشهيد الذي كان يأتي من الجبهة الي قبل ان يذهب للبيت ليقرأ الصحف، و يعرف أخر مستجدات الساحة السياسية و المفاوضات مع العدوان، (زيد) هو أكثر من أخ أو صديق كان زيد الرفيق الذي يقتسم معي رغيف الخبز حينما نجوع، قالت ( صورته رضيه شكله كان طيب الله يرحمه ويجبر قلبك وقلب أهله ومحبيه)، كانت عيناها لا تزالان مغرورقة بالدموع تحتاج من يواسيها لكنها بادرت بمواساتي انا فقبلت رأسها وسألتها عن مكان استشهاد ابنها (عمار) ثم قرأت الفاتحة الى روحه ووعدتها أني كلما زرت (زيد) لن أنسى زيارة (عمار) لأبلغه السلام من والدته”.
سبأ