الخبر وما وراء الخبر

محطات نورانية من حياة العظماء

57

بقلم | ضيف الله الشامي

للسيد الشهيد زيد علي مصلح محطاتٌ كثيرةٌ في حياته لا يمكنُ أن تحصيَها الكلماتُ، فكُلُّ خطوة من خطواته تعطي هدىً، وكل دقيقة من عمره تمثل درساً، فكان بحقٍّ مدرسة في التقوى ومنارة للمستنيرين وقدوة للمستبصرين، يسبق قولَه عملُه، ويعلمُ الناس بسيرته قبل تعليمهم بلسانه، ترتسم ابتسامته على كُلّ الوجوه من أبناء منطقة مران ابتسامة الخير والأمل والتفاؤل، كلماته قبس من نور، وخطاباته فيض من الهدى.

كانت تشد إليه الرحال طلباً في العلم وحباً في اللقاء، من عرفه من كبير أَوْ صغير لا ينسى حرارةَ لقائه وشوقه إليه فما أن يمد يده مصافحا لك حتى تعزف أوتار القلب معنى الاخوة والمحبة التي تنساب من بين أصابعه وتترجمها ابتسامته وترسمها بشاشة وجهه.

نعم إنه السيد الشهيد زيد علي مصلح محطة للتزود بالتقوى عليٌ على أقرانه بالتواضع وحب الخير للناس والعمل على راحتهم مصلح بين الناس تعرفه مواطن الخلافات والنزاعات حكما ومصلحا لا يرائي ولا يداهن ولا تخدعه الأموال والمظاهر.

كانت تشخَصُ لهيبته أبصارُ المرجفين والمنافقين وتهتز لقوته أركان الفاسدين والمبطلين، امتزجت شخصيتُه بالتواضُعِ وخدمة الناس واحترامهم والرحمة بهم وعند لقاء العدو قوي المراس شديد البأس لا يشق له غبار، لا يخاف عدوًّا ولا يخشى في الله لومةَ لائم، لكنه بين يدي الله عبداً خاضعاً ذليلاً ساجداً راكعاً مسبحاً مستغفراً.

نعم.. إنه جليسُ المستضعفين وشُعلةُ تهدي الحائرين، فلا بيت من البيوت ولا مجلس من المجالس إلا وله بصمتُهُ الواضحة فيه، ولا شاب أَوْ طفل في منطقة مران وغيرها إلّا وآثارُ تربيته بارزة في حياته وله موقف معه فكان تعامله معهم كأنهم أبناؤه فكان شعورُهم تجاهه شعورَ الأب والمعلم والمربي حتى كان جميع الآباءُ يرَون فيه أباً لأبنائهم.

كان يصحَبُ طلابَه إلى منازلهم وقُرَاهم؛ لتشجيعهم وزرع الثقة في نفوسهم، يصولُ ويجولُ بهم بين القرى مرشداً ومعلماً متنقلاً معهم في ندوات ثقافية وخطب للجمعة فيصعدهم إلى المنابر خطباء ويجلس أمامهم بكل إصغاء وعلامة الرضا والبهجة على محياه.

يخرُجُ في جوف الليل مع مجموعة من المؤمنين يتناوبون الحراسة وتأمين حياة الناس مرابطاً معهم، يسامرهم.. يحدثهم.. يعرفهم قيمتهم في الحياة، فكان سيد العيون الساهرة لحراسة العيون النائمة.

ذاك هو الشهيد زيدُ مَن زاد الله به منطقة مران شرفاً وفخراً واعتزازاً بجانب فخرها وعزها ومجدها وتأريخها المتجسد بالشهيد القائد، تعرفه أشجارها الوارفة وهو يتفيأ ضلالها منذ نعومة أظفاره معلما في الكتاتيب قبل المدارس ومحطة لهداية الناس والإصلاح بينهم حتى أنسته وأنسها فكادت تدنو منه أغصانها لتصافحه وأوراقها لتمسح عنه عرق العناء والتعب رضا بما يصنع..

تنافسه ثمارها عطاء للخير لأهلها وتسابقه ورودها ومشاقرها وأريجها محبة وسعادة لأبنائها.

تعرفه المنابرُ خطيباً لامعاً، ومتكلماً فصيحاً، ومتحدثاً بارعاً، لا يمّلُ سماعه، ولا يكل انتظاره، ولا يشرد الذهن عن حديثه.. لا يعرف قيمة الوقت إلّا بمجالسته، تشرئب لإطلالته الأعناق وتشنف لسماعه الآذان وتهتز لكلماته قلوب المنافقين والفاسقين، وتطمئن بها نفوس المؤمنين الصادقين.

عرفه العدو قبل الصديق فتحرّكوا لإيذائه ومضايقته وحاولوا بكل الوسائل ترهيبه والضغط عليه بمختلف الوسائل لثنيه عن مساره الذي ينتهجه، وما معاناته في مجال التربية والتعليم من قبل رواد الفكر الوهابي وجلاوزة الباطل إلّا خير شاهد على خوفهم ورعبهم من تربية الأجيال بعيداً عن العبودية لغير الله.

عُرف بالسخاء والكرم والعطف على الفقراء والمساكين والرعاية لهم رغم فقره وقلة ماله فلم يكن يملك من الأرض متراً ولا من التجارة فلساً، فالقناعة زاده، والمتاجرةُ مع الله رأس ماله، فكان يقنَعُ بالقرص اليابس مأدوماً وبالماء مشروباً كما لو تناول ما لَـذَّ وطاب من الزاد والمعاد.

يعرفه ترابُ الأرض وهو يعمَلُ فيه بنّاءً معمارياً ماهراً وعاملاً نشيطاً، يعمَلُ في مشاريع الخير والإحسان، يسابق العمال والأصحاء طلباً في الأجر من الله تعالى لا من المخلوقين حتى صار القدوة في الإحسان، والفارس في الميدان، والذليل على المؤمنين العزيز على الكافرين.

يقف بين يدي ربه خاضعاً ذليلاً خاشعاً، غزير الدمعة، شديد الرهبة، يمضي نهارَه في خدمة الناس ومعظم ليله تضرعاً واستغفاراً عن التقصير حتى غدت محاريب الصلاة ومواضع السجود تشتاق لتقبيل جبينه الطاهر.

حياتُه جهادٌ، ومنطقُه تعبئةٌ، وسيرته مدرسة للرجولة، ومصاحبته تاج للفخر والعزة، يصدع بالحق، وينطق بالصدق، ويعشق الشهادة والاستشهاد، يرى واقعَ الأمة البائس فيتألم لألمها ويأسف لواقعها، ويتحَــرّك لتضميد جراحها فيكتب الوقائع أبياتاً من الشعر وملاحمَ تعيدُ كتابة التأريخ بصفائه ونقائه فكانت قصائدُه تصفُ الداءَ وتضعُ الدواء.

وما إن أشرقت معالمُ الهداية من ثنايا الشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي حتى كان السيد الشهيد زيد علي مصلح أول الناس انشراحاً للصدر وفهماً للواقع وترجمة للثقافة القرآنية.

وكان تحَــرّك الشهيد القائد هو الحُلمَ الذي ظل يبحث عنه الشهيد زيد في مسيرة حياته العلمية والعملية، حتى أَصْبَح ترجمان الهدى وبوابة الوصول إلى ارتشاف الثقافة القرآنية مِن منبعها.