الشهيد.. ومجتمعُه المجيد
بقلم / حمود عبدالله الأهنومي
للتوِّ جاءني نبأُ استشهاد الشهيد الثاني من أبنَاء إحْـدَى خالاتي الكريمات، وهو الشهيدُ الرابعُ من إخوته جميعاً، بما فيهم إخوتُه لأبيه من أُمٍّ أُخْــرَى، إنه الشهيد السعيد أسعد غالب الأهنومي، وحينها توجَّهت إلى الله بأن يربط على قلوب أمهات الشهداء، وأن يثبِّت قلب خالتي الطيبة التي لم يبقَ لها سوى ولد مجاهد عنيد، أرجو من الله أن يذلِّلَ صعبَه ليؤنسَ حياةَ أُمّه المكلومة الصابرة.
عادت بي الذكرى إلى الأَيَّــام الأولى للعدوان لأُقارِنَ نفسياتِ آباء وأمهات الشهداء وذويهم جَميعاً وكيف بلغ بهم الحال اليوم، فوجدت تطوراً هائلاً ومذهلاً وعجيباً، لصالح الثبات والصمود والقوة الروحية الجبارة التي عكست النصر الاستراتيجي الذي يثق اليمانيون به قرب أم تأخر، مهما كثرت التضحيات العظيمة.
كان الكثير إذا جُرِح لهم جريحٌ أطبقت الدنيا الفسيحة عليهم، وأظلمت الآفاق الرحبة في وجوههم، ولكن بالترقي مع الله ومن خلال كتابه الكريم والثقة بما لديه، بات الكثير منا اليوم، حين يودع ولده الحبيب، أَوْ أخاه الجميل، يحتسبه من أول يوم في عداد أولياء الله المجاورين له، قلت لزوجتي لما غادرنا أحبُّ أولادنا إلينا في عمله الجهادي: “إن عاد هذا الولد فهو رزق جديد، ورزق أتانا الله به من حيث لم نحتسب، وإن نال الشهادة فذلك ما اختاره الله له، مما رجاه لنفسه”.
طفل بعمر السبع سنوات، أخوه الأكبر كان قد استُشْهِد في إحْدَى جبهات العزة والكرامة، أسرع لإكرام أحد الواصلين من سفره بمجرد وصوله، فبحث له عن قاتٍ من قات أبيه، وتودد له أكثر بشكل غريب، وما إن جلس في ذلك المجلس حتى قدَّم الطفل هديته تلك، ولكنه شفعها برجاءٍ طفولي عجيب، وهو أن يساعده على الذهاب إلى الجبهة عندما يكبر، فضحك الحاضرون، لكن الذي لم يخض فيه أولئك الحاضرون هو دلالة ذلك الاتجاه الواضح والجلي لدى تلك الأجيال، وعمَّ يعبِّر ذلك الشوق إلى الجبهات من قبل الشباب وكل الأجيال اللاحقة حتى الأطفال في عمر الزهور، حيث يسابقون الزمن، ويقفون يوميًّا على أطراف أصابعهم ليظهروا أكبر من بعضهم، استعجالا للسماح لهم بالذهاب إلى الجبهة.
ما لم يدركه قادة العدوان ومرتزقتهم حتى اليوم رغم التضحيات الكبيرة أن مجازرهم هذه التي يوزعونها على بلدنا يوميًّا – لم تزد شعبنا إلا عنفوانا، وشعورا بالواجب الديني قبل الوطني، وما لم يدركوه أَيْضاً أن الشعب بصغاره وكباره الذي بلغ هذا الحد من العزة والمنَعَة وإباء الضيم، وتقديس الحرية الحقيقية، وكره الظلم والفسوق والعصيان، وعُرِف عن رجاله ونسائه وصغاره وكباره أنهم يقدِّمون الشهداء، تلو الشهداء، ولا يخضعون، أَوْ يُسْتَضامون، فإنه شعبٌ لا يقبل الهزيمة، ولا تجوز عليه أنواع التهديد، ولا يخاف من الوعيد، وأنه يشق طريقه نحو النصر والمجد والكرامة والقوة أكثر وأكثر.
هذا المجتمع الذي قدم الشهداء عمليًّا وسرت روح الشهادة في دمائه وشرايينه، وأَصْبَح الشهداء فيهم مناراتِ التقى، وأعلامَ المجد، وهامات الفخر، وأَصْبَح سواء لديهم أن ينتصروا في المعارك ويظفروا ماديًّا فيها، أَوْ تحلق أرواحهم إلى الملأ الأعلى، هؤلاء لا يمكن لدولة أَوْ لحِلفٍ أَوْ لقوة أن تهزمهم، أَوْ تبتزهم، مهما عظمت قوتها، وعلا شأنها، وتطوّر سلاحها، أَوْ كثرت أموالها.
إن صخرة الشعوب العاتية التي انكسر عندها الغزاة وتحطمت آمالهم، وتبعثرت خططهم، هي الروحية التي تسود تلك الشعوب الحرة المجاهدة، فما كان منها عاشقا للشهادة مقدِسا لها، ممجِّداً لأهلها، مهتما بذويها، محتَرِما لمختاريها، فإنه شعبٌ يصبح النَّيْل منه أبعدَ من النيل من الجوزاء، والاقتراب منه أصعب من الترقي في درجات السماء، وعند هذا الحد فشل الطغاة والظالمون من تجاوز هذه النوعية من الشعوب، وعادوا مثخنين بفشلهم، ومثقلين بهزائمهم، بذاكرةٍ مؤلمة، وذكرياتٍ كابوسية.
ليس هناك أقوى من الشعوب التي تجاوزت حالة الخوف والقلق والضعف والتهاون والانخذال والتراجع وحب الدنيا والبقاء.
الروحية السامية سلاح فعّال وعظيم.. هي أقوى من كُلّ أنواع الأسلحة، وأكثر حداثة من كُلّ حديثها، وأكثر فتكاً من أشدها فتكاً وتدميراً.
هي الروحية التي تملأ جوانح مجاهدينا الأبطال، ويفتقد إليها أفرادهم الأذلاء وقاداتهم الأنذال، فهم رغم ما حشدوا من قوات، وما لديهم من إمكانات مالية، وخطط حربية، وعدة وعتاد، وأحدث الطائرات وأقوى البوارج، رغم كُلّ ذلك إلا أنهم فشلوا فشلا ذريعا شهد العالم عليه، وبات المقاتل اليمني مرهوبَ الجانب، مهابَ الحركة، يثير العجب، ويملأ الدنيا شموخا وعزة، ما ذلك إلا لأنهم يمتلكون الروحية العالية، فتوثقهم الكاميرات وهم يتقدمون بأسلحة خفيفة تحت مرأى أفتك وأقوى الطائرات والبوارج والصواريخ والقنابل، هذه الروحية هي التي اقتحمت بهم أهوالَ المجد، وداست بأرجلهم معاقلَ وحصونَ ومعسكرات الأعداء، فقاسوها أشد وأسد أنواع المقاساة، وكسبوا الحرب وفازوا بالرهان.
أما المجتمع الذي منحه شهداؤه هذه القيمةَ وهذه الروحية واكتسبها منهم عن جدارة، فأَصْبَح يتمنى الموت ويرجو لقاء الله – فلا يمكن أن يتسلل إليه الإحباط، أَوْ يستحوذ عليه الملل، أَوْ يصاب بالخيبة، مهما أصيب من آلام، ونال من كلومٍ وجروح؛ لأنه يريد لقاء الله من أي الأبواب التي توصله إليه تعالى، إنْ من باب الشهادة أَوْ من باب الانتصار.
في كُلٍّ منهما تحقيق المراد الإلهي في أرض التكليف وساحة الاختبار.