أغلقوا باب المندب
بقلم / صلاح الدكاك
هل تكسرت أَسنَّة عملية (الرمح الذهبي) بالفعل؟!
أجل.. إذن لماذا لا يزالُ زَخَمُ الضربات الجوية والبحرية لطائرات وبوارج تحالف العدوان الأمريكي السعودي، مستمراً على الحديدة ومُدُنِها المتاخمة للساحل الغربي؟!
باختصار؛ لأن التحالُفَ راهَنَ على نُشُوب انتفاضة شعبية في الحديدة، تنشط شبكة عملائه وخلاياه الإرهابية في تنضيجها لتتظافر مع زحوفات مرتزقته المسنودة بحراً وجواً، فيتمكن من بسط سيطرته على المدينة ومينائها في زمن وجيز، غير أن هذه الانتفاضة التي اتكأت عليها حسابات التحالف لم تندلع و… لن تندلع.
فعلاوةً على الضربات الاستباقية القاصمة التي قوَّضَ بها الجيشُ واللجانُ عشراتِ الخلايا النائمة وأوكار الجريمة المنظمة التابعة لتحالف العدوان، هناك حقيقة لا يرغب الغزاة ووكلاؤهم المحليون في الإقرار بها، هي أن مجتمعَ الحديدة (الصوفي) والمستضعَف والمقصي طيلةَ عقود الهيمنة (الإخوانجية الوهّابية)، لا يمكن أبداً أن يحنيَ ظهرَه طائعاً لتقرفص عليه منظومة الإقطاع من جديد.
لقد تنفَّس مجتمع الحديدة ـ كحال غالبية مجتمعات الشمال والجنوب ـ الصعداء بأفول شمس الإقطاع والقهر، وبزوغ فجر الـ21 من أيلول، المبشر بتذليل الطريق أمام المظلوميات الاجتماعية اليمنية صوب عدالة ناجزة وشراكة حقيقية في الإنتاج وريوع الإنتاج على قاعدة المساواة وتكافؤ الفرص.
وعلى الرغم من بعض المآخذ إزاء بعض المتكسِّبين باسم ثورة أيلول، في الحديدة كما في سواها، إلا أن ذلك لا يعني أن الشارعَ قطع رجاءَه في الثورة وأُفُقها الواعد، وبات يتحسَّرَ على جلّادي وجلاوزة منظومة الإقطاع الساقطة، بما يجعله يمُدُّ إليهم يدَ العَون للعودة إلى سدة طغيانهم معززين بأحذية الاستعمار الأجنبي.
ما يعتقد تحالُفُ العدوان أنه ضيق (مجتمع الحديدة بالمليشيات) وسخطه عليها، هو ضربٌ من ضروب التضخيم الإعلامي والتضليل، والرهانُ عليه رهان على وهم؛ لأنه حتى مع التسليم بفرضية هذا الضيق والسخط الشعبيَّين، فإنه لا يفي بواحد في المائة من حاجة التحالف لإشعال ثورة مضادَّة تقشر عروس البحر الأحمر كبرتقالة، وتضعُها بين يدي قراصنة أساطيله وبارجاته ومرتزقته مجاناً، وفي زمن وجيز.
هذا ما طمع ويطمع تحالف العدوان في أن يحدث، وهذا ما لم ولن يحدث في واقع الأمر، وترتيباً على هذه المعادلة بوسعنا قراءة اشتداد زخم القصف الجوي والبحري على مدن الساحل الغربي، والحديدة تحديداً، من قبل التحالف؛ باعتباره ثأراً مهووساً لخيبة حساباته.
أكثر من 70 غارة جوية على مديرية التحيتا وحدَها، نفّذتها طائراتُ التحالف، الخميسَ الفائتَ، مشفوعةً بإسناد ناري من بارجاته، وهي ذاتُ المديرية التي اندلعت فيها بدءاً موجات المجاعة الأولى في اليمن وجائحة سوء التغذية، وذرفت عليها وسائلُ إعلام العدوان والمنظمات الإنْسَانية براميل من دموع التماسيح، غير أن الأممَ المتحدة ومبعوثَها اليومَ وفي ما مضى، آيلة للتغاضي، بل ولمباركة إسراف التحالف في القتل، تفهماً لهوسه، في إنجازٍ متغيِّرٍ ميداني يتيحُ له ادّعاءَ جدوى عملياته العسكرية، وأنه لا يزالُ من المبكر مطالبته بوقفها وإنهاء الحصار، والجلوس إلى طاولة مفاوضات سياسية.
ما المقدار الذي يتعيّن على الوحش أن يعبَّه من دمنا ليرتويَ؟! وما المساحة التي يتعيَّنُ علينا أن نُشعِلَها من بر الجزيرة العربية وبحرها لتلتهمَ النارُ أقدامَ وأكف المجتمع الدولي الباردة، فيستشعر يقيناً بأنه لا مناصَ من وقف العدوان، ولا جدوى من الاستمرار في سفك دمائنا نزولاً عند شبق البترودولار؟!
تمخر ناقلاتُ النفط العملاقة عبابَ مضيق باب المندب على مدار الساعة، حاملةً على متنها قرابة الـ60% مما يحتاج إليه العالمُ من الوقود لتشحيمِ مفاصل ماكيناته ومصانعه وإنارة لياليه الحمراء..
وعلى مدار الساعة تدرز طائرات الـ(إف16) سواحلنا بأرتال من جثامين الصيادين الغلابى الذين يفكّرون باجتراح أفق محدود للعيش بقطر أمتار في عرض البحر، أَوْ تغميس سناراتهم في المياه الضحلة القريبة مستلقين على الشاطئ بانتظار فتات الصيد..
لا ريب أن النفطَ أثمن آلاف المرات من دم شعبنا في ميزان محاكم العدل الدولية؛ لذا فإن العالم لا يحركه خوفه على الدم اليمني، وإنما خوفُه على الدورة الملاحية اليومية للنفط، وما دامت هذه الدورة تتدفَّقُ بانتظام آمنة مطمئنة، فإن دَمَنا لن يسترعيَ انتباهه مطلقاً إلا بمقدار ما يسترعيه اندلاق علبة صلصة نافقة على بزته الدبلوماسية (ماركة كنالي).
على العالَمِ أن يخافَ؛ لأن الدورة النفطية باتت مهددةً بجلطة وشيكة في شريانها الأورطي، لكن الأمرَ ليس كذلك حتى اللحظة، فـ(المليشيات الانقلابية) لم تفعّلْ بعدُ ما يستدعي خوف العالم.. وعليها أن تفعل.
لدينا اليوم ورقةٌ استراتيجيةٌ وحيدةٌ براً تنهَضُ على رافعة (ابتغاء القوم) والمبادأة، هي ورقة الجنوب السعودي الذي يحترق ويتفحم تحت لهب قداحات الجيش واللجان، لكن هذه الورقة قد تفقد قدراً وازناً من قيمتها الاستراتيجية لجهتنا، فيما إذا استمرت استراتيجيتنا بحراً دفاعية ولم تنتهج مبدأ المبادأة.
سيغدو الوضع أكثر تعقيداً لجهة انتزاع ورقة بحرية وازنة ترغم العالم على الرضوخ لمطلب وقف العدوان وإنهاء الحصار، فيما لو تمكن التحالف من اقتطاع مساحة برية محدودة من الحديدة زائداً الميناء، إذ إن عمليات الجيش واللجان حينها ستغدو مقامرة تؤلب علينا العالم، بما فيه من أصدقاء افتراضيين ومحايدين مجازاً، عوضاً عن أن هذه العمليات ستأخذ شكل ردات فعل انفعالية، ولن تكون فعلاً وازناً زمامه في يدنا، كأن نصيب (باب المندب) بجلطة قابلة للتعافي على طاولة مفاوضات سياسية يسبقها وقف العدوان وإنهاء الحصار، الآن وليس غداً.
لا ينبغي أن نمنحَ العالم فرصةً ليروِّضَ نفسَه على القبول بخسارة (الجنوب السعودي)، بل يتعيَّنُ علينا مفاجأتُه في عقر مخاوفه بحراً، وتشريع بوابة محاذيره على احتمالات خسران ما لا يمكن احتواء تداعياته من مصالح كانت آمنة حتى وقت قريب.
في الأثناء فلتمتد الذراعُ الباليستية إلى أبعد مدى ممكن، ولتتسع مساحةُ الحريق.. تلك هي معادلة الخَلاص.