الخبر وما وراء الخبر

واحترقت أمريكا في صنعاء

52

بقلم / إبراهيم سنجاب، كاتب مصري

وقال اليمنى البسيط : إم كيو أم أربعة وأربعين المهم أننا أحرقناها وأسقطناها وذلك تعليقا على قيام الدفاعات الجوية اليمنية باسقاط طائرة أمريكية بدون طيار كانت تحلق لجمع المعلومات والصور فى سماء صنعاء وتصور المواقع وترفع الإحداثيات تمهيدا لقصفها ليلا أو نهارا فلا فرق حيث تتجول القاصفات والراجمات من كل الطرازات دون دون أن تعترضها ذبابة فى كل سماء اليمن الجريح . وتطوع مواطن آخر بتقديم شرح تفصيلى عن حجم وثمن وامكانات الطائرة الفنية والتكنولوجية , وأصبحت الطائرة حديث اليمن فى ذلك اليوم الذى يحتفلون فيه بذكرى عاشوراء يوم أن خير سيد شهداء أهل الجنة الحسين بن على بن أبى طالب سبط الرسول الأعظم وأبن الزهراء فاطمة وعلى الكرار أمير المؤمنين ومفتاح مدينة العلم .

وهذا هو ( أبو يمن ) عندما يفرح بخبر سار , يتغلب على الجوع والعطش والظلمة والراتب ومشاعر الظلم والقهر برقصة برع صعدية أو تهامية أوحضرمية , لا يهم الإسم فصنعاء جامعة يريدون أن يقزموها . أبو يمن يجد نفسه مضطرا فى كل مرة يطلق فيها صاروخا أو يجتاز فيها موقعا عسكريا للمعتدين أو المرتزقة داخل حدوده أو خارجها يجد نفسه مضطر لأن يوثق فعلته وإلا فهو ( خراط ) أى كذاب ومن فى هذا العالم سيصدق أنه يذبح ويقتل ويجوع ويعرى ويمرض منذ ثلاث سنوات وما زالت لديه القدرة على أن يتنفس وليس أن يقاتل وليس أن يقتل ويحتل ويدافع , وتظل مشكلته أنه يتعرض لحصار إعلامى من الخارج و(عولقة ) إعلامية فى الداخل – مضطر لاستخدام هذا اللفظ وأعتذر مقدما . !

فى زيارتى الثانية لليمن فى مارس 2016 شدنى الفضول لأحضر فعالية شعبية لا أتذكر لأى مناسبة أقاموها فى صنعاء ووجدت مئات الآلاف يصرخون – الموت لأمريكا – أعجبنى الشعار ورددته معهم بحماس , وعندما إنتهت الفعالية سألت نفسى اللوامة كيف ستموت أمريكا ؟ ووجدت أكثر من إجابة أولها وعلى رأسها أنها صرخة مظلوم ولا مانع من توصيفها كما قال الشاعر كالطير يرقص مذبوحا من الألم . ووجدت فى ضميرى إجابة أخرى وكنت قد أرهقت نفسى بالتفكير فى مدلول هذا الشعار , وقلت إنها صرخة إعلان براءة من سياسات أمريكا إزاء العرب والمسلمين مثلا وإعلان تحدى المستضعف للقوى بمعايير المال والسلاح والعلم … إلخ . قلت لنفسى كان الإيرانيون فى مرحلة ما من عمر ثورتهم يرددون هذا الشعار ولكنهم الآن توقفوا عن ترديده !وقلت ما زال نفس الشعار يتردد فى سماء جنوب لبنان كلما ورد ذكر أمريكا فى خطاب لحسن نصر الله , ولكننى عاطفيا كنت مقتنعا بضرورة أن تموت أمريكا فى اليمن ولم أعرف لذلك سببا سياسيا أو عسكريا أو مبررا أستطيع أن أقنع به غيرى , والذى كان يلح على دائما أن اليمن أصل العرب وأنها كأقليم جغرافى هى البلد الذى سيفر إليه المؤمنون عندما تقوم الفتنه الكبرى وأنها وبلا جدال بلاد الإيمان والحكمة والفقه , ثم إن هؤلاء الناس أبدا لم يعتدوا وعاشوا كل تاريخهم فى حالة دفاع عن النفس أو العرض . ودائما كنت أتذكر لليمنيين أنهم أبطال الغزوات الإسلامية التاريخية وأنهم الفاتحون والداعون إلى الله بإحسان ولين طبع .

نعود لحديث ال m q ( أم أربعة وأربعين ) فقبل أيام من إحراقها كان السيد عبد الملك الحوثى قد هدد بارسال الصواريخ إلى أبو ظبى أسوة بالرياض , وتوعد بإسقاط الطائرات الحربية التى تقصف اليمن , وقال إن تطورا مذهلا قد حدث فى الدفاعات الجوية لليمنيين وأن تطورا أكبر قد أنجز فى القوة الصاروخية , والمعتاد لدى أصدقاء السيد وأعدائه أن يصدقوه فلم يجربوا عليه كذبا من قبل , وللحق فقد ذكر الرئيس السابق على صالح مثل ذلك فى أكثر من مناسبة وقال أنهم سيدافعون عن اليمن حتى آخر نقطة دماء .

فى حسابات الحرب والكلام هنا للاستراتيجيين لابد لمن يبدأها أن يكون قادرا على انهائها ينفس قوة أول طلقة أو على الأقل ينهيها وقد حقق أكبر عدد من أهدافها سواء المعلنة أو السرية , وهنا يكمن سر تفوق اليمنيين رغم ما أصاب بلادهم من تدمير وتخريب ستظل آثاره لعشرات السنين , وعند هذه النقطة لابد أن تضع فى اعتبارك أن هؤلاء نوع من البشر تحمل انقطاع الكهرباء وانعدام المياه العذبة مثلا لمدة ثلاث سنوات , فما بالك بالجوع والمرض والعطش ومعاناة مع الكوليرا وحمى الضنك لدرجة قالت عنها التقارير العالمية إنها أسوأ كارثة تحل بشعب على مدى التاريخ ( مليون مصاب بالكوليرا ) .

و فى حسابات الحرب تستطيع قوى التحالف أن تنهى الوجود المادى لكل ما هو عسكرى فى اليمن ولكن أن يتمكن اليمنيون من صناعة صواريخ بالستية أو تطويرها وكذلك إنشاء قواعد دفاع جوى متطورة فتلك أكبر هزية قد لا يحسب لها حساب حتى أثناء الحرب ولكنها ستكون أهم بند على أجندة أى مفاوضات لوقف الحرب ومن ذا الذى سيتخلى عن صواريخه ودفاعاته إن لم يطمئن لأسباب وجوده آمنا مطمئنا قادرا على حماية نفسه !

وفى حسابات الحرب تستطيع أن تسمع وترى بصدق أو بكذب مدى الخسائر البشرية التى لحقت باليمنيين ( مسلحين ومدنيين ) إزاء التعرض للقصف أو الإقتتال على الأرض ولكنك وبنفس الدرجة يجب أن تضع إلى جانب هذا الإعتبار مشاهد الآلاف الذين يتطوعون للدفاع عن بلدهم ومشاهد تدريبهم واستيعابهم للأسلحة التى يحملونها , وإلى جوار ذلك أيضا ينبغى أن ترى كيف لمقاتلين حفاة أن يجتازوا مواقع عسكرية محصنة داخل العمق السعودى أو على خطوط المواجهة فى 22 جبهة مع ما يقال لها قوات المقاومة .

وفى حسابات الحرب لابد وأن تنظر إلى مستوى الروح المعنوية لدى المدنيين والقوى الشعبية الحاضنة للمقاتلين , ومن أول نظرة ورغم السم الذى تبثه كتائب الاخوان الإصلاحيين المحترفة إعلاميا ومخابرتيا إلا أن مجتمع صنعاء والمحافظات التى يسيطر عليها رجال الجيش واللجان أو ما يسمى إصطلاحا ( ميليشا الحوثى وصالح ) هذا المجتمع ما زال متماسكا وقادرا على الصمود المادى والمعنوى رغم الألم والقهر والشعور بالظلم نتيجة تخاذل كل قوى الإنسانية فى العالم أمام مأساتهم .

وفى حسابات الحرب لابد من التركيز على شكل الحياة فى دولة أو شبه دولة والنظر بمنظور مختلف إلى طبيعة الحياة اليومية , هل ما زال هؤلاء الناس يبيعون ويشترون ؟ هل ما زالوا يذهبون إلى المساجد ؟ هل ما زالوا يتنفسون شهيقا وزفيرا كبقية خلق الله ؟ وهنا أقول لك : إن هؤلاء الناس ما زالوا قادرين على القيام بمظاهرات مليونية فى قلب قلب صنعاء فى ظل تحليق للقاصفات المعادية , وأقول لك :نساؤهم وبناتهم يتظاهرن بأعداد قد تفوق اعداد الرجال وأنهن قادرات على الصراخ بالموت لأمريكا وقادرات على غناء الزوامل كالرجال تماما , وهن المتحفظات منذ عدة آلاف من السنين , وأقول لك إن فى اليمن ألف أم تستقبل زوجها أو إبنها الشهيد بالزغاريد , وأضيف لا أحد يعرف كيف تتوفر لهؤلاء المتحفظات سبل العيش بعد فقدان العائل ولا أحد يعرف كيف يمر اليوم على أبنائه وأسرته .

فى حسابات الحرب على اليمن عوامل كثيرة , ولكن أخطرها أن تذهب إلى حرب لإضعاف عدوك أو لكسر شوكته وثنى إرادته فإذا بك تخسر كل أهدافك والأسوأ من ذلك أن يستقوى عدوك عليك فتصبح له أفضلية تحديد وقت إنهاء المعارك . وفى الحالة اليمنية لا يستطبع أحد أن يمن على اليمنيين ( الحوثيين ) كما يسميهم الإعلام العالمى بأن لهم صديق أو داعم , ولا حتى إيران والصين وروسيا وكوريا الشمالية وهى القوى التى تناوئ أمريكا فى العالم , ولا يستطيع أحد أن يطالبهم برد الجميل وهذه حقيقة مؤكدة , ولا يستطيع أحد أن يضغط عليهم بالمعنى السياسى أو الأخلاقى لتبادل الضغوطات فهؤلاء بشر خلقوا ليجدوا العدو من أمامهم والبحر من خلفهم .

عندما إلتقيت بالسيد محمد على الحوثى وكان حينها رئيسا للجنة الثورية وكان يسكن قصر الرئاسة فى صنعاء اندهشت جدا عندما قال لى إن العرب سيتصالحون يوما ما ولكن العدو الحقيقى لليمن والمسلمين هما أمريكا وإسرائيل , وقتها كانت طائرات السعودية والإمارات تمرح فى سماء صنعاء , وكانت أبواق الخارجية الامريكية تقول أنه لابد من حل سياسى للأزمة اليمنية وكان ذلك منبع دهشتى. فى اليمن أنت فى بلد الدهشة المحمل بعبء تاريخى أثقل كاهله , أنت فى بلد يتطورببطئ استجابة للعصر ولكنه لم يتخلى أبدا عن كل شئ وجد نفسه عليه منذ النشأة الأولى قبل آلاف السنين , فى اليمن أنت أمام شعب مختلف ومقاتلين مختلفين وسياسين أعمق إختلافا وشعوبا وقبائل فى شعب واحد . ومع ذلك يستطيع الكثيرون ممن ما زالوا محل إحترام لديهم أن يواسوهم وأن يعزوهم وأن يطلبوا منهم الدخول فى حوارات منطقية وأن يطالبوهم بتقديم تنازلات لوقف مسلسل الدم والنار وهم بطبيعتهم اليمنية سيستجيبون .