عشقي والتطبيع.. تساؤلات وإجابات
بقلم / علي أحمد جاحز
أنور عشقي في الحوار مع موقع ”دويتشة فيله” بدا متحمسا جدا للخطوة وحديثه بدا كما لو كان يحمل بشارة بقرب تحقق أمل عريض ومهم كانت تنتظره المملكة، وهو بالفعل لم يكن يفتعل شيئا من هذا القبيل، فمجرد مرور عابر على مسار الأحداث من بعد طرح ما سمي مبادرة السلام العربية في قمة بيروت من قبل الملك عبدالله عام 2002م من شأنه أن يحيلنا إلى مقاربة حقيقية لخلفيات تلك الأحداث، وقراءتها من زاوية مختلفة هذه المرة وفهمها في سياق التهيئة والترتيب للوصول إلى لحظة التطبيع مع إسرائيل التي تنتظرها السعودية، وهي كما يبدو اللحظة التي نستطيع أن نقول إننا نشهد مخاضات ولادتها هذه الأيام.
عشقي الذي بشر بقرب التطبيع عمد في حديثه إلى التسويق أيضا للمبادرة التي تطرحها إسرائيل كرد على مبادرة السعودية، ويقول إن الفرق بسيط بين المبادرتين وهو أن إسرائيل تريد أن يكون حل الدولتين على أساس كونفدرالي وليس دولة مستقلة، وفي سياق حديثه يجعل ذلك الفرق هينا وبسيطا رغم أنه لب المسألة.
ويقول إن الفلسطينيين إذا وافقوا على هذه المبادرة التي لا تزال قيد الدراسة في الولايات المتحدة فإن المملكة ستوافق، وبحسب التجارب السابقة مع إسرائيل فإن مجرد الإعلان من طرف إسرائيل ولو شكلي للقبول بالمبادرة العربية قد يقابله فورا إعلان عملي سعودي وعربي بالتطبيع مع إسرائيل، وفي مقابل ما ستلتزم به السعودية وحلفها العربي الرسمي لإسرائيل ستتنصل إسرائيل من تنفيذ حتى أقل القليل في المبادرة العربية التي تعد بحد ذاتها تصفية للقضية الفلسطينية من المنظور المبدئي للقضية.
ومن الملفت أن أنور عشقي تعمد الإشارة إلى علاقة التطبيع السعودي الإسرائيلي بحسم موضوع جزيرتي صنافير وتيران المصريتين، ويقول إن إقرار تبعيتهما للسعودية سيدفع السعودية للتعاطي مع اتفاقية كامب ديفيد التي لم تعد بنظر السعودية اتفاقية مصرية إسرائيلية بل اتفاقية عربية إسرائيلية، وهو ما يفهم منه أن امتلاك السعودية حدود مع إسرائيل كان أمرا ضروريا للتقدم باتجاه التطبيع، فيما يشبه الاعتراف بأن الغرض من امتلاك السعودية للجزيرتين هو مجاورة إسرائيل وفتح نافذة جغرافية عليها.
ولم يستطع أنور عشقي أن يهرب من الحقيقة فيما يخص علاقة التقدم باتجاه التطبيع بالعداء المشترك من قِبل المملكة وإسرائيل تجاه إيران، وإن ادعى أن العداء لإيران له زاويتان إحداهما سعودية والأخرى إسرائيلية، فتوصيفه لأسباب العداء الإسرائيلي لإيران كان اعترافا جريئا لم يكن يمتلك أن يهرب من الإقرار به وهو بحسب قوله إن إسرائيل تعادي إيران لأن إيران تريد أن تمحوها من الوجود وهو سبب وجيه لإسرائيل لتعادي إيران لكنه فضيحة للمملكة التي تعادي إيران لذات السبب فحسب وإن ادعى عشقي أن السبب هو أن إيران تريد إزعاجها والإخلال بأمنها.
حديث أنور عشقي مع الموقع الألماني يجيب عن كل التساؤلات المتعلقة بموضوع التطبيع وكأن المسألة محسومة والوقت قد حان لطرح كل جوانب الموضوع، ولعل التطرق إلى موضوع موقف الشعب السعودي كان غاية في الحساسية والأهمية، لا سيما وأنه موضع تساؤل لكن عشقي أجاب على تلك التساؤلات بكل أريحية نيابة عن الشعب السعودي، حيث جزم بأن الشعب السعودي لا مشكلة لديه مستشهدا بالتغريدات والتعلقيات التي يكتبها النشطاء السعوديون.
ويقول عشقي: لو نظرنا إلى تغريدات وتعليقات أبنائه نجد أنهم يقولون إن إسرائيل لم يسجل منها عدوان واحد على المملكة. فيما الحقيقة أن أنور عشقي على ثقة بأن الشعب السعودي لن يجرؤ على اتخاذ أي موقف وإنما هو يرسل رسالة تحذير للشعب أو بالأحرى رسالة توجيه بأن يكون هذا هو الموقف المفترض.
وعن موقف حماس، توقع عشقي بدون تردد أن توافق حماس على التطبيع، مستندا إلى مبادرة حماس التي وافقت فيها على حل الدولتين مؤخرا، وقوى عشقي توقعه بأن تقبل حماس التطبيع بأن حماس ترتبط بالإخوان المسلمين الذين أظهروا حميمية تجاه إسرائيل أثناء حكمهم لمصر من خلال خطابهم ومراسلاتهم لإسرائيل، ويفهم من حديث عشقي بهذا الشكل أنه لهجة ابتزاز للإخوان مفادها لن يستطيع الإخوان المزايدة علينا فقد حكموا مصر وحافظوا على التطبيع بل وبحميمية.
تهيئة طويلة للتطبيع:
هذه الخطوة السعودية الجريئة لم تأت إلا ثمرة لما تم زراعته في الواقع العربي من متغيرات على مدى سنوات طوال برعاية أمريكية وتنفيذ عربي تتزعمه السعودية، فالواقع العربي عند إطلاق المبادرة العربية لم يكن مهيأ للتطبيع، كانت إسرائيل تدرك ذلك والولايات المتحدة أيضا غير أن مجرد إطلاق المبادرة في ذلك التوقيت كان خطوة لابد منها لكسر ولو قليلا من الحواجز في الوعي العربي تجاه فكرة التطبيع مع إسرائيل، وكان لابد من أن تتبعها خطوات تهيئ المنطقة عسكريا واقتصاديا ومن ثم سهولة توجيه وتطويع الوعي العربي ولو في أسوأ الأحوال تخديره وإصابته بالشلل عبر سلسلة من الأحداث والأزمات التي تنهك الواقع برمته وهو ما شهدناه على مراحل مختلفة.
احتلال العراق وتفكيك الدولة العراقية القوية والموحدة في عام 2003م كانت أولى الخطوات التمهيدية لتغيير الواقع العربي وتهيئته للتطبيع مع إسرائيل، وبرغم أن الدولة العراقية كانت قد أنهكت بالحصار إلا أن احتلالها تحت مبررات انكشف بطلانها كان أمر مدروسا الهدف منه تركيع بقية الأنظمة العربية والسيطرة على قرارها بشكل عملي تحت تهديد النموذج العراقي، كما أن احتلال العراق أفرز ما يسمى الصراع الطائفي في المنطقة وتم تكريس هذا الصراع في الذهنية العربية بشكل متسارع، لدرجة أن المواقف العربية تجاه الصراع مع إسرائيل بدأت تأخذ في الارتهان للصراع الطائفي الشيعي السُني.
إعلان الحرب على صعدة من قبل قوات النظام اليمني في عام 2004م تحت لافتة طائفية وتحت ذريعة محاربة النفوذ الإيراني وما إلى ذلك كان الخطوة التالية في السياق نفسه، وهذه الحرب التي شنت على حركة أنصار الله ومشروعها الثقافي في بداية انطلاقتها صبغت بالنكهة الطائفية وهي نفس اللعبة التي خرج بها الاحتلال الأمريكي من غزوه للعراق، هذه الحرب التي توسعت وصار من الصعب السيطرة عليها واستمرت إلى العام 2010م أنهكت الدولة اليمنية والجيش وتركت شرخا اجتماعيا عميقا في اليمن وكرست فكرة الصراع الطائفي الشيعي السُني في اليمن وهو ما استثمر لصالح مشروع التطبيع اليوم، فالصراع استخدم لاحقا كمبرر لتفكيك كيان الدولة وتفكيك التركيبة السياسية والاجتماعية وبالتالي السيطرة على سواحلها ومنافذها وضمان تفتيتها وإضعاف جيشها عبر العدوان على اليمن الذي يعد من الخطوات المتأخرة.
خلال الحروب التي شنت برعاية أمريكية وإشراف سعودي على صعدة وأنصار الله شمال اليمن وتحديدا في العام 2006م شنت إسرائيل عدوانها على جنوب لبنان بعد انسحاب الجيش السوري منه تحت ضغط عربي ودولي عقب اغتيال رئيس الورزاء اللبناني الأسبق رفيق الحريري ومحاولات إلصاق التهمة بسوريا وحزب الله. العدوان الإسرائيلي على لبنان حظي بمباركة رسمية من قبل معظم الأنظمة العربية وعلى رأسها السعودية، وكان الهدف من هذه الخطوة وضع المواقف العربية الرسمية والشعبية في مختبر التشخيص، حيث ظهرت المواقف الرسمية منقسمة بين مباركٍ وصامت وثالث متحفظ، وهو اختبار كان لابد منه في سبيل تنفيذ خطة تطويع الأنظمة والشعوب وصولا لكسر حواجز جديدة باتجاه الوصول إلى لحظة التطبيع التي تذهب السعودية نحوها اليوم وهي تجر خلفها قطيعا من الأنظمة العربية الجاهزة.
كان واضحا أن العدوان الإسرائيلي على لبنان أفرز واقعا مختلفا خارج المتوقع حيث ظهر مشروع المقاومة قويا مسنودا بموقف شعبي واسع، وكان هذا مزعجا، فكررت إسرائيل التجربة من خلال عدوانها على غزة، ولم تتغير نتيجة المواقف الرسمية والشعبية، ولعل أهم ما كان يراد امتحانه في الصورة الكلية لهذين الحدثين هو مدى فاعلية البعد الطائفي على المواقف العربية الشعبية والرسمية باعتبار أن حزب الله شيعي وحماس سنية.
في المحصلة لم تكن نتيجة التجربتين مرضية، فالشحن الطائفي الذي تزامن مع الحدثين لم يظهر تأثيره بنسبة كبيرة في المواقف العربية الشعبية والرسمية، فوجود إيران وسوريا كداعمين رئيسيين للمقاومتين الفلسطينية واللبنانية كان يشكل عائقا بوجه خلخلة الوعي العربي المتعاطف ضد إسرائيل، غير أن بذور تسميم الوعي والمواقف بالطائفية زرعت عبر الحملات الإعلامية على إثر العدوان الإسرائيلي على لبنان وغزة.
كان من مقتضيات تهيئة الواقع العربي للتطبيع مع إسرائيل استهداف سوريا وعزلها ومقاطعتها والتعبئة ضدها تحت لافتة طائفية بحكم علاقتها مع إيران، في حين أن السبب الرئيسي لذلك الاستهداف هو كون سوريا تشكل خطرا كبيرا على إسرائيل عسكريا على وجه الخصوص إضافة إلى احتضان سوريا لمحور المقاومة ورعايتها لحركات المقاومة ولعب دور الجسر بين إيران وغيرها من الدول الداعمة للمقاومة وبين حزب الله وحركات المقاومة الفلسطينية، وتطور ذلك الاستهداف إلى قطع العلاقات مع سوريا ووضعها هدفا للحملات الإعلامية المكثفة الرامية إلى إخراج سوريا من كونها دولة عربية شقيقة إلى مربع العدو الذي يصبح التعاطف معه جريمة.
لم يمر وقتا طويلا حتى جاء ما سمي بالربيع العربي ليكون الخطوة الأكثر فاعلية في تغيير وجه الواقع العربي برمته، وكان من بين أهداف ذلك الحدث الذي شملت تداعياته تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن، هو تدمير وإضعاف الكيانات العربية التي تمتلك قدرا باقيا من القوة ولدى شعوبها نزعة عدائية عميقة تجاه إسرائيل وجر الكثير من التيارات والكيانات إلى فخ التصالح مع إسرائيل من خلال وضعها في السلطة ولو مؤقتا مثل الإخوان المسلمين في مصر وفي اليمن وتونس، والخوض في تفاصيل ما سمي بالربيع العربي يحتاج مساحة خاصة به، وما يهمنا هنا هو أن الخطوة التي أشرفت عليها أمريكا والسعودية وبعض دول الخليج خرجت بتدمير كل من سوريا وليبيا واليمن بشكل كامل، فيما أضعف دور مصر وأصبحت مجرد صوت تابع، وهو ما شكل قفزة كبيرة في طريق الوصول إلى لحظة التطبيع التي نشهد مخاضاتها اليوم.
في غضون ذلك، ظهرت داعش لتعيق أي ترميم للواقع في كل من العراق وسوريا وليبيا، إضافة إلى تجلي العلاقة التكاملية بين داعش وبين إسرائيل في بداية الأزمة السورية ثم تطورت لتصل إلى علاقة تعاضدية برزت ملامحها في مشاركة الطيران الإسرائيلي ثم الأمريكي لمساندة داعش .
فيما أدخل اليمن في حروب مابعد 2011م نتج عنها سقوط مخطط دعشنة شمال اليمن وتمكن أنصار الله من تطهير كل المناطق التي كانت تتهيأ لسيطرة داعشية مفاجئة .. والملفت في الأمر هو سقوط النظام برمته في إثر ذلك .. ولم يحتمل المخرج الأمريكي والسعودي تقدم لجان أنصار الله في الإطاحة المتسارعة بالمخطط الداعشي و وصول العمليات إلى عدن فشنوا العدوان والحصار على اليمن وجرى تنفيذ مخطط التدمير الممنهج لليمن وصولا إلى هذا الواقع المعقد الذي بدوره صار بنظر السعودية ومن ورائها الولايات المتحدة إضافة إلى خارطة المناخات التي تهيئ الظروف للتطبيع العلني مع إسرائيل .
كانت ذريعة العدوان هو مواجهة النفوذ الإيراني، وضمن لعبة توجيه بوصلة العداء بعيدا عن إسرائيل وباتجاه إيران تحديدا، باعتبار طهران تستهدف الاستقرار في المنطقة كما هو الحال في سوريا والتعبئة والحشد إليها أيضا. ولأن الشعب اليمني نجح في أن يحافظ على مبدأ العداء لإسرائيل والوعي بالمخطط نتيجة وجود حركة أنصار الله في صدارة المشهد فإن استمرار الحرب عليه سيبقى خيارا مطروحا على طاولة التحالف ضمن مقتضيات خطة التطبيع.
ولعل السيطرة على سواحل اليمن ومنافذه البحرية وفرض الحصار عليه مطلب إسرائيلي كما هو ضمان لعدم تعكير أجواء الذهاب إلى التطبيع، بل إن الصبغة الطائفية في ملف العدوان على اليمن استثمرت في توجيه بوصلة العداء في الوعي العربي صوب إيران بدلا من إسرائيل.
خلاصة القول :
بعد كل هذه المتغيرات التي أسهمت السعودية بجدية في صناعتها أقنعت كما يبدو المملكة في أن الوضع بات مهيأ لتعلن التطبيع مع إسرائيل وتجر خلفها أنظمة المنطقة العربية، ومن لم ينجر معها فسيكون في خانة الاستهداف، ولعل خلفيات أزمة قطر تأتي من منطلق أن الأخيرة تمتلك رؤية مختلفة للتطبيع وترى أنه سيكون فخا لسقوط التيار السُني في الوعي العربي والإسلامي لصالح محور إيران والتيار الشيعي، بينما السعودية تريد أن يصطف التيار السُني خلفها بشكل كامل حتى وإن كان في التحالف والتطبيع مع إسرائيل.
وفي الواقع فإن المشروع الأمريكي يقتضي إشعال حرب ضد إيران ومحور المقاومة تشارك فيه إسرائيل، لكنها تريد أن تصبغ تلك الحرب بالصبغة الطائفية ولذلك لا تريد أن يبقى أي فصيل سُني في صف إيران وهو ما يعني أن بقاء أي طرف سُني في صف المقاومة يشكل مشكلة قد تخل بالصورة التي يراد رسمها للصراع الطائفي في المنطقة، والمستهدف من هذا هو حركة حماس السنية المدعومة من إيران الشيعية، وفي قائمة الإرهاب لدى الأنظمة العربية السُنية التي لم يعد يهمها أن يبقى لدى السُنة أي تمثيل في جبهة مقاومة إسرائيل، بل يبدو جليا أن الأمر يفوق ذلك بكثير إلى درجة التحالف مع إسرائيل والحميمية في العلاقات.
المصدر: البديل المصرية