عبدُالملك الحوثي… ولِد قائداً
بقلم / صلاح الدكاك
إنصرف المصلّون عقب انقضاء صلاة الجمعة في مسجد جُمعة بني فاضل بمران، عدا صَبِيٍّ نحيل وسيمِ القَسَمات متوقّد الحدقات ومصاب بالربو ظل يتحيّن لحظة خلو البهو، وما إن خلا حتى ارتقى درجات المنبر وشرع يخطب مصغياً لرجع صوته في الفراغ.
حدث ذلك منتصف ثمانينيات القرن الفائت، وظل الصبي ذو السبعة أعوام يخطُبُ مصغياً للصدى مراراً، غير أن المكانَ سيغدو في وقت لاحق فسيحاً وشاسعاً عرضه اليمن، وسيقف الصبي ذاته ليخطُبَ في مئات الآلاف المتقاطرين إليه كقائد طليعي لثورة شعبية أطاحت بواحدة من أعتق منظومات الإقطاع والحكم بالوكالة في الجزيرة العربية عام 2014، وعوضاً عن أن يصغي هو لرجع صوته، ستتلقف دوائر صناعة القرار العالمي والمراقبون مضمون كلماته تحليلاً وقراءة مستشرفين من خلالها مسارَ مجريات الأحداث في اليمن وتأثيرها سلباً وإيجاباً على مستقبل المنطقة، لا سيما دول الجوار النفطي.
بفرط توقير يسرُدُ جارُ الله (أحد مقاتلي “أنصار الله” من أبناء مران وممَّن صحبوا السيد)، فصلاً من طفولة “قائد المسيرة القرآنية”، “قائد ثورة الـ21 من سبتمبر” (2014)، ورُبّان دفة المجابهة الوطنية الشعبية الجارية مع قوى العدوان الكوني على اليمن.
السنواتُ الأولى
“كان متحدثاً لَبِقاً وحَادَّ الذكاء، تتلمذ في إحدى مدارس مران، غير أن والده، السَّيِّـد بدر الدين الحوثي، لم يشأ له أن يتخلق على سماع بذيء القول الذي صادف أن سمعه والده من بعض أقرانه من التلاميذ، فقرر عدم إرساله للمدرسة مجدّداً وتولى ـ وهو الفقيه والعلامة والمرجع الكبير ـ تربيته وتعليمه. ونقلاً عن معلميه في المدرسة، يقول جار الله: “السَّيِّـدُ عَبدالملك كان سيفوقُ زملاءَه ويتصدَّرُهم، لما لمسوه من ذكائه وشَغَفه العلمي”.
القدرُ بطبيعة الحال يعده لصدارة ما هو أكثر بكثير من قائمة أوائل الطلبة، ولمضمار ريادة مختلف سيغدو فيه معلموه أنفسهم بعض تلاميذه.
في كنف بيت علم وتقوى وحضورٍ اجتماعي وازن، ولد ونشأ السَّيِّـد عَبدالملك بدر الدين الحوثي، عام 1399هـ (1978م) في قرية جمعة بني فاضل مران، مديرية حيدان بصعدة شمال اليمن، وهو الثامنُ بين إخوته وأشقائه الثلاثة عشر الذين يتصدَّرُهم الشهيد القائد السَّيِّـدُ حسين، وبكر أبيه لزوجته الرابعة.
كان أثيراً لدى أبيه لما رأى فيه من فطنة وعلائم نبوغ مبكر، وكان يردِّدُ دائماً “الولد عَبدالملك فيه الكفاية”، ولطالما ابتعثه للفصْلِ بين متخاصمين بالإنابة عنه، رغم صغر سِنّه، وحسب رواية بعض مجايليه ممن التقينا بهم فإنه كان رفيقه الدائم، الأمرُ الذي هيّأ للطفل مجالاً ثراً وكثيفاً لمِراس اجتماعي جعله ينشأ كبيراً منذ البدء، ووضعه دائماً موضع اتخاذ القرار كرجل ناضج، وهو سياق لا غنى عنه لفهم بروز السَّيِّـد عَبدالملك كقائد لـ”المسيرة القرآنية” في أعصب منعطف لها على الإطلاق خلَفاً للسيد حسين عقب استشهادِه في الحرب الأولى عام 2004.
البيئةُ والروافدُ الفكرية
كان في السادسة والعشرين من عمره عندما شنَّت السلطات اليمنية حربها بدءاً لاجتثاث الحركة في مهدها، واعتقدت السلطات حينها أنها بلغت غايتها باستشهاد القائد المُؤَسّس، وإذ عزمت على تصفية السَّيِّـد بدر الدين ونجله عَبدالملك تحوطاً من انبعاثة محتملة للحركة، فقد فوجئت بأن أشرسَ فصول المواجهة لم يبدأ بعدُ، واصطدمت شهوة مخططاتها للإبادة بقيادة فتية نقلت معركة الدفاع عن النفس في مواجهة جبروت الآلة العسكرية الرسمية من طور المناجزة العفوية البدائية إلى طور التخطيط واسع الأفق، وتقعيد الخبرات المكتسبة من الحرب الأولى فالثانية، كمدخلات فاعلة في أتون الحروب الأربع اللاحقة.
لم يكن السَّيِّـدُ بدر الدين بمنأىً عن المشهد السياسي الدائر في البلد (كان نائباً لرئيس حزب الأمة عقب تأسيسه عام 1990)، لكن مقاربته له كانت من زاوية نشدان العدالة، ورفض الظلم والاستبداد أياً كان نظام الحكم الذي ينتهجه، وهي سمةٌ ثورية عقائدية أصيلة تمثل جوهر مذهب الإمام زيد بن علي عليه السلام، على أن هذا الثبات على المبدأ هو ما جرَّ على السَّيِّـد وأهل بيته حصراً تهم خصومهم الكيدية من وصمهم بـ”الإمامة والعداء للنظام الجمهوري” إلى القول بـ”تبعيتهم لنظام ولاية الفقيه في إيران”، وتأسيساً عليه فإن حياتهم كانت جهاداً دائماً في مواجهة صلف السلطات في العهدين الملكي والجمهوري على السواء، وبلغ هذا الصلف ذروته مع تدشين الشهيد القائد السَّيِّـد حسين لـ”المسيرة القرآنية” وإطلاق شعار “الصرخة في وجه المستكبرين” عام 2001، حيث تدرجت ردات فعل السلطة من حملات الاعتقال والقمع لمردديه إلى شن حروب ست، يقر الرئيس الأسبق (علي عَبدالله صالح) بأنها شنت على خلفية “الصرخة” في حوار “ذاكرة السياسة” على قناة “العربية” (2013).
قبل ذلك، وفي العام 1994م، تعرض السَّيِّـد بدر الدين الحوثي لمحاولة اغتيال بقذائف صاروخية أطلقت على منزله في مران، على خلفية جملة مواقف أبرزها وقوفه ونجله السَّيِّـد حسين (كان نائباً في البرلمان حينها) ضد حرب صيف 1994 بين شريكي الوحدة (صالح والبيض)، ونزولاً عند نصيحة بعض محبيه اضطر السَّيِّـد بدر الدين إلى السفر قاصداً سوريا، ثم إيران، وصحب معه نجله السَّيِّـد عَبدالملك، وكانت تلك بالنسبة لهذا الأخير تجربة السفر الأولى والوحيدة خارج البلد، واستمرت زهاء العام.
تعلق السَّيِّـد عَبدالملك الحوثي باكراً بالسيرة الكفاحية للإمام القاسم بن محمد (1557 ـ 1620) الذي قاد ثورة ضد الاحتلال العثماني الأول لليمن، وهو فصل ناصع من فصول الكفاح الوطني لنيل الاستقلال والخلاص من الوصاية والتبعية، وتمثل المواجهة مع تحالف العدوان والاحتلال اليوم استمراراً زاهياً له، ويتصدر طليعتها السَّيِّـد عَبدالملك في زمن أعتى وأعقد بكثير مما كان عليه الحال زمن القاسم بن محمد.
وشأن غالبية الأحرار في اليمن والمنطقة العربية، فإن الثورة الإسلامية التي أخرجت إيران من عباءة التبعية لقوى الاستعمار الغربي ووضعتها في صدارة الصراع ضد الكيان الصهيوني، لامست ولا ريب شغاف الروح الثورية المتقدة للسيد عَبدالملك الحوثي.
على أن هذا الاتصال الفكري والوجداني الحميم بالروافد الثورية التأريخية، في سياقها الوطني المديد أو الأممي الرحب، كان اتصالاً بالقيم الكلية الإنسانية والدينية السامية الحافزة لتلك الروافد، ولم يكن شغفاً مراهقاً وفارغاً بديناميكيتها من قبيل الولع بـ”أفلام الأكشن”؛ لذا فإن ذهنيةَ القائدين، الشهيد حسين وخلفه السَّيِّـد عَبدالملك، كانت ذهنية واعية تماماً بواقعها الوطني اجتماعياً وتأريخياً، كما وخصوصيته والعوامل المحركة له، دون إغفال لجدل التدافع الذي ينتظم علاقاته بالمحيطَين الإقليمي والدولي الواسعَين تأثيراً وتأثراً.
لقد حمى هذا الوعيُ تحرُّكَهما الثوري لاحقاً من خفّة الارتجال والإسقاطات واستنساخ تجارب الآخرين، فاتسم المسار الثوري لـ “أنصار الله” بزخم صاعد متئد على رافعة نضج الظروف الموضوعية واختمار الشرط الذاتي للالتحاق بها، بمنأى عن استباق مجراها أو التخلف عنه، الأمر الذي كفل للحركة رسوخاً في الخضم الشعبي اليمني طرح ثماره فيما بعد على هيئة صمود فذ واستبسال منقطع النظير واصطفاف جماهيري طوعي خلف القيادة الطليعية للثورة في مواجهة تحالف العدوان الأمريكي السعودي، على الرغم من حضيض واقع اقتصادي محلي لم يحدث أن انحدرت إليه بلدٌ أو شعبٌ فقاومه وصمد كحال اليمن وشعبها.
الحروبُ الست
يقول السَّيِّـد عَبدالملك في أحد خطاباته “إن الشعوب العظيمة هي تلك الشعوب التي واجهت تحديات عظيمة فجعلت من هذه التحديات فرصة للخلق والابتكار والنهوض”، وهي مقولة لم يجتزئها السَّيِّـد من سياق كتاب فلسفي ما ليستشهد بها، وإنما استولد حروفها حرفاً حرفاً من لهب كثبان نشور ـ مديرية الصفراء، وسعير نقعة كتاف الحدودية، وصخر جبال مطرة ـ مديرية مجز، إبان انقضاء الحرب الأولى على صعدة وشروع آلة السلطة العسكرية في ملاحقته ووالده بهدف تصفيتهما.
يؤكد المراقبون لمجريات الحروب الست، أن السلطات اليمنية كانت تدرك إلى حد بعيد أن سمات القائد الذي سيخلف السَّيِّـد الشهيد حسين على الحركة، متحققة في السَّيِّـد عَبدالملك لما رشح عنه من صلة وثيقة بمشروع الشهيد المُؤَسّس، ولم يصرفها صغر سنه قياساً بإخوته عن تصنيفه في صدارة المطلوب تصفيتهم إلى جوار والده السَّيِّـد بدر الدين.
تولى السَّيِّـد عَبدالملك قيادة أحد ثلاثة أنساق رئيسة عسكرية إبان الحرب الأولى هو نسق: الخرب ـ مران ـ مديرية حيدان، وكان عمره حينها 26 عاماً، وانسحب مع أزوف الحرب إلى نشور ـ مديرية كتاف.
خمسون مقاتلاً فقط من قوام مائتي مقاتل كانوا هم الناجين، وطبقاً لشهادة أحدهم (أحمد الرازحي) فإن المسافة بين مران ونشور (150كم) كانت مكتظة بالقوات الحكومية والمليشيات التكفيرية المجندة بمعيتها، واستلزم الوضع أن يتنقل السَّيِّـد ووالده بحذر شديد عبر أهالي القرى الموثوق بهم، ولدى بلوغه نشور بأيام قليلة أبلغهم القيادي الأنصاري (عبدالله الرزامي) بأن السلطة قد قطعت له عهداً بعدم استهدافهم أو ملاحقتهم خلال لقاء تفاوُضي جمعه باللواء علي محسن الأحمر، رأس حربة العدوان على صعدة.
كان جلياً بالنسبة للسيد ووالده أن السلطة تدبر لمكيدة ما. أخلى الشيخ الرزامي مقاتليه المرابطين حول نشور مطمئناً لعهد السلطة، وامتنع بضعة مقاتلين عن مغادرة مراتبهم (متاريسهم) ولما كانت المكيدة تقتضي أن تتسلل مجاميع من مسلحي السلطة لتصفية السَّيِّـد ووالده ليلاً، فقد اصطدموا بالمرابطين وفشلت مهمتهم، وانسحب السَّيِّـد عَبدالملك متوجهاً إلى نقعة ـ مديرية كتاف، الحدودية مع السعودية.
كانت نشور عبارة عن كثبان رملية غير حصينة يسهل اجتياحها، في حين بدت نقعة الرملية الصحراوية طاردة بامتياز للائذين بها، ليس لتضاريسها فحسب، بل ولبدوها الأجلاف المشتغلين بتهريب الحشيش والممنوعات.
إمتعض بدو نقعة من مقام السَّيِّـد في رَبْعِهم، وطلبوا إليه المغادرة، غير أن طائراتِ السلطة التي قصت عيونها من نساء ومندسين آثار السيد، شرعت في شن غاراتها على المكان، ففر البدو مذعورين، وأتاح ذلك للسيد فسحةً لترتيب أولوياته واختيار الوجهة التالية.
عرفت أحداث الملاحقة هذه بالحرب الثانية، حيث بدأت في أبريل 2005م واستمرت لأسبوعين، ومثلت تماساً لنقلة نوعية هندس السَّيِّـد عَبدالملك مضامينها مستنهضاً معنويات “أنصار الله” المكبرين بالصرخة، من درك ركام الهزيمة إلى مصاف الانتصارات الساحقة والقائمة على التخطيط العملياتي المنهجي لمضمار وآليات المواجهة والتموضع والانتشار، بدءاً من مطرة ـ مديرية مجز، التي وقع عليها اختيار السَّيِّـد لحاضنتها الاجتماعية الآهلة وتضاريسها الجبلية الوعرة. كان السَّيِّـد عَبدالملك عند هذا المنعطف قد وجد نفسه في سدة القيادة بجدارة المبادرة والنهوض بالمسؤولية ولم الشعث من هشيم النكوص في مهب جائحة الشعور بالهزيمة وفوات الأوان.
في الأثناء، وبينما كانت السلطة تتأهب لشن حرب الاجتثاث الثالثة، أذاع التلفزيون الرسمي خبراً مفاده أن رئيس الجمهورية قد التقى بنجل السَّيِّـد بدر الدين (عبد الملك) وأنهما اتفقا على طي صفحة الحرب العبثية وبدء إعمار صعدة، ودل خبر اللقاء الذي نفاه السَّيِّـد عَبدالملك، ببيان صحافي هو الأول له، أن تكهنات السلطة حول شخصية القائد الذي سيخلف الشهيد المُؤَسّس كانت في محلها، غير أن ذلك لم يكن من حسن حظها على الإطلاق.
القيادة
بقيادة السَّيِّـد عَبدالملك لـ”المسيرة القرآنية” ولـ “أنصار الله”، ستتحطَّمُ تباعاً أسيجة العزلة الجغرافية والعسكرية والاقتصادية والإعلامية المركبة التي ضربتها السلطة حول الحركة فشيطنتها وشوشت على طبيعتها في أوساط الرأي العام اليمني والعربي والإسلامي.
أطلقت السلطة على حروبها ضد الحركة أسماءً لا توارب بشاعة نواياها المسبقة حيالها وسعيها الممنهج لوأدها تلبية لمركز الهيمنة العالمية، فحملت حروبها اسم “الأرض المحروقة” حيناً، و”الاجتثاث” حيناً آخر، وانخرطت المملكة السعودية في الحرب السادسة علانية إلى جانبها، على أن أصل الحركة الثابت رفع فرعها إلى السماء فامتدت وتجذرت.
يقول السفير الأمريكي السابق إلى اليمن، غيرالد فيرستاين، مخاطباً تحالف العدوان في وثيقة سرية مسربة نشرتها جريدة “الأخبار” اللبنانية: “حذّرناكم سلفاً من أن الحوثيين سيستفحلون إن لم يتم القضاءُ عليهم باكراً…”.
لقد حظي الوجدانُ الشعبي العام لليمنيين بالقائد الذي ظل لعقود حلماً يغازل مخيلاتهم، وبات يتعين على الولايات المتحدة الأمريكية ووكلائها من صهاينة وعربان صهاينة، أن تقضي على الشعب اليمني برمته إذا أرادت أن تقضي على “الحوثيين”، وهو ما باشرت فعله عملياً خلال عامي عدوانها على اليمن، وأخفقت في تحقيقه إخفاقاً ذريعاً.
“سنحارِبُ جيلاً بعد جيل، وإلى يوم القيامة”، يقولُ السيدُ القائد ويتصدَّرُ النسق الأول للمعركة محارباً صلباً في خنادق المحاربين، وسياسياً نافذ البصيرة في لقاءاته بالقوى السياسية، واقتصادياً ملماً بالمعضلات طامحاً في البدائل في معرض اجتماعاته بالتجار ورجال الأعمال، وموجهاً حصيفاً في نقاشاته مع الإعلاميين.
“نستطيعُ أن نفعَلَ، نستطيعُ أن نكونَ”.. هذا ما استنهضُه القائدُ في نفوس اليمنيين قولاً وعملاً، وهذا ما تعلموه منه، وقليلون فقط يعرفون أن خلفَ كُلّ نجاحات القوة الصاروخية هِـمَّةُ سيد الثورة، وخلفَ كُلّ ضربة باليستية إشارةٌ من سَبَّابته.