ومــضــات مـن الــشـمــوخ
بقلم / د. إسماعيل محمد المحاقري
سيكتُبُ التأريخُ أن هذه الحربَ مَثَّلت البدايةَ في المواجهة بين الحق والباطل، المواجهة بين مشروع قوى الهيمنة في الاستمرار في فرض هيمنتها على الشعوب المستضعفة واستمرار وصايتها على أوطانها والتحكم في مقدراتها وشؤونها السياسية والاقتصادية وعولمة ثقافتها وقيمها واقتصادها والاستمرار في احتقار شعوبها وإذلالها وتصدير كُلّ المشكلات التي تعيق نهضتها وبناء دولتها، المواجهة بين طغيان القوة والمال بكل صوره وآلياته وتياراته ومُؤَسّساته الدولية والإقليمية والسياسية والإعلامية والحقوقية.
ذلك الباطل الذي لا يقبل الارتياب ولا يحتمل التبريرات وليس بالإمكان حمله على أي منطق إلا منطق الطغيان والعنصريين والنازيين أَوْ منطق التوحش عند التيارات الإجْـرامية، المنطق الذي سوغ لهم استعباد الرجل الأسود واجتثاثه من وطنه الأصلي وإبادة الهندي الأَحْمَر في أَمريكا وقتل الملايين من الرجل الملون بإلقاء القنبلة الذرية على ناجازاكي وهيروشيما في اليابان، وهو ذات المنطق الذي به دمّروا سوريا والعراق ولبنان وليبيا ويوغسلافيا وأفغانستان والسودان والبوسنة والهرسك والشيشان.
وبين الحق بكل تجلياته المادية والروحية بين حق المستضعفين والمبغي عليهم في الحياة والحرية ورفض الذل والطغيان والدفاع عن كرامتهم. الحق الذي لا تخالجُنا بشأنه الشكوك أَوْ الظنون، والذي لا يستطيع أي منطق أن يخفيَ إشعاعاتِه المضيئة، الحق بكل صوره في الحياة والحرية والاستقلال والدفاع عن النفس والهوية والدين والوطن والتأريخ والعزة والكرامة والحق في رفض الذل والخنوع والاستعباد، والحق في امتلاك الشعب لقراره وسيادته على أرضه ومقدراته واحْترَام خياراته.
الحق الذي يعلو على كُلّ تشريع قانوني وسابق على كُلّ تشريع سماوي وغير قابل للمساوَمة والسجال الديمقراطي، ولا خيارَ لصاحبه في الدفاع عنه والتضحية والموت من أجله، فمن أجل استقامة الحياة على الحق بعث الله الأنبياء وأنزل الكتبَ السماوية وأوجب الجهادَ وكتب الشهادة.
وقد علمتنا الشرائع والتأريخ وسُننُ الحياة أن العاقبةَ للحق وأهله عندما تكونُ المواجهة، وبهذا التميز الساطع بين طرفي الصراع وعندما نأتي بشروط النصر حسب التوجيهات القرآنية والتأريخية.
وسيكتب التأريخُ عن القيادتين الاستثنائيتين الفكرية والعسكرية اللتين وهبهما الله وهيّأهما لقيادة الأمة وخَصَّها بالصفات الاستثنائية في هذا الظرف الاستثنائي من حياة أمتنا، صفة الحكمة والشجاعة والإرَادَة والإيْمَان المطلق بحتمية منازعة الظلم والطغيان وكَبْح جماحه وتغوله وأطماعه، وقد كان لثقافة القرآن الدورُ الفاعلُ في إعادة بناء شخصية المسلم وبناء كثير من المفاهيم والمسلكيات الخاطئة، وخصوصًا في موضوع الجهاد وشروطه ووَحدة الأمة وتحَرّكها. لقد أسست لأهمية استقامة الحياة كشرط لإيْمَاننا فيجب مغادرة ثقافة التهوين والتقليل من شأن الدنيا وضرورة استقامتها على الحق والعدل وأن الله سيحاسبنا على قبولنا العيش في هذه الحياة منقوصين في حقوقنا وكرامتنا وإنْسَانيتنا.
كما أبانت عن حقيقة الإيْمَان والثقة بالنصر ومكنون الإرَادَة ومخزوناتها من القوة المادية والروحية لمواجهة قوى الطغيان وأن شرطَ النصر من الله أن تكونَ قد عملنا كُلّ ما علينا واستفرغنا الجهد – والطاقة المادية والنفسية – الذي يقتضيه الموقف للوصول إليه وأن منطقةَ القضاء والقدر لا تأتي إلا بعد استفراغِ ذلك الجُهد وقيامنا في تنفيذ المسؤوليات وفق الأصول والأسباب الطبيعية مع بذل منتهى الحرص والصبر والمثابرة والتحري لتجنب حالات الخطأ والغفلة والتقصير بعد الأخذ بأسباب القوة الذي تستوجبها الاستطاعة بقول الله تعالى (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ) وقوله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ)، وأن الوحدة الوطنية ووحدة الأمة لا يمكن تحقيقُها بالجَدَل الفكري وتمنيات النفس وإنما من خلال التحَرّك لخدمة قضايا الأمة والدفاع عن كرامتها وعزتها، فمتى وجد من يتحَرّك سيجد الجميع يلتف حوله.
ولقد استطاعت هاتان القيادتان بهذه الرؤية أن تعيدَ ربط الإنْسَان بخالقه وثقافته القرآنية وبتأريخه النضالي والقيمي وبهويته الإسلامية الصحيحة، واستطاعت أن تنعشَ عنده الذاكرة وأن تُحييَ فيه العزة والكرامة والحمية والغِيرة، وأن تنزعَ من وعيه وذهنه ما علق بها من أوهام الضعف وظنون العجز ومن استئناس الظلم والقبول بالخنوع للظلمة وطغيانهم، واستطاعت أن تصنع من كُلّ فئات الشعب رجالًا ونساءًا وأطفالًا جيشًا وطنيًا يدافع عن الوطن، وقد رأينا كيف أن هذه القيادة مع شعبها استطاعت أن تفاجئ العالم بما حققته من صمود استثنائي في وجه الباطل وضربت مثالًا فريدًا في دفاع الشعوب عن أوطانها وانتصارها لقيمها وهويتها ومظلوميتها وعرّفت العالم كيف أن الأقدار استجابت لإرادتها بتعزيز إيْمَانها وتقويم خططها ونضالها.
لقد شاهد العالَمُ صورًا من التلاحُمِ الشعبي وإرَادَة الصمود والتحدي عند المرأة والطفل والشيخ، وكيف حول الشعب أحزانه ومآتمه أفراحًا يقرع فيها الطبول وتطلق فيها الأمهات الزغاريد وتنثر الورود على فلذات أكبادهن بإيْمَان وشموخ قلما تجود به الأقدار، وشاهد العالم الشباب والشيوخ وهم يتدافعون إلى ميادين التدريب واللجان بمعارك الشرف بكل شموخ وتحدي وهم على ثقة مطلقة بتحقيق النصر يردّدون أشهر كلمة قيلت في وجه الظلم لأشرف شخصية ومِثال وقدوة “هيهات منا الذلة” ويرددون أشهر شعار ردده شعبنا في وجه قوى الهيمنة والاستكبار.
وسيكتب التأريخ عن الملاحم البطولية التي صدرها جيشنا ولجاننا الشعبية في كُلّ الجبهات التي بلغت العشرات وعن المعارك الأسطورية وما فوق الأسطورية وبلا مبالغة التي ذاع صيتها وشاركت أشهر المعارك صمودًا وتضحية كمعركة ميدي والمخاء ونهم وصرواح والجوف.
فهذه المعاركُ حتمًا ستحُلُّ ضيفًا على التأريخ وستزود المكتبات والمعاهد العسكرية بكثير من حكايات الصمود والخدع العسكرية وبكثير من القيادات الاستثنائية وستحضر حتمًا المقارنة مع معركة الصحراء والعلمين ومعركة “ستالينجراد” وستحضر حكايات أكثر غرابة من حكاية أعواد الخيزران وحكاية الأنفاق التي حفرت في حرب فيتنام. وستحضر حكاية الولاعة كعلامة مميزة لشجاعة الجندي اليمني وبسالته في إلحاق الهزيمة النفسية بالجندي السعوديّ جعلته يفر من ميادين المعارك تاركًا مدرعاته وتحصيناته ورقاباته يتم إحراقُها بتلك الولاعة عوضًا عن خسارة قذيفة أَوْ عبوة ناسفة، وستحضر الحكايات عن المَصَارع الجماعية التي تلقاها الإماراتيون والجنجويد وبلاك ووتر وجنود وضباط المرتزقة بالضربات الصاروخية والعمليات العسكرية النوعية والمهارات والخطط العسكرية كما حصل في صافر وكهبوب والمخا وذباب وباب المندب وصرواح، وستحضر حكاية التصنيع الحربي للصواريخ البالستية وتطوير مداياتها حتى زارت نجران وأبها والطائف وجده والرياض وتصنيع الطائرات بدون طيار بأنواعها الراصدة والاستطلاعية والهجومية وتصنيع القذائف والذخيرة وتطوير الدفاعات الجوية وما مثلته تلك الإبداعات من تفوق نوعي للعقل اليمني وحضوره عند الحاجة لقهر المستحيل وما أحدثته من تحول نوعي في معادلة الردع وميزان القوة وسقط بحضورها رهان العدو على آثار الحضارة.
وسيحضُرُ أَيْضًا أسطورة استهداف قواتنا البحرية لبوارج العدو في سواحل البحر الأَحْمَر كتطور نوعي في الجانب الصاروخي والمعلوماتي، وكذلك إنجازات وحدة القنص التي مثّلت تحديًا إضافيًا للعدو ونقلةًا نوعيةًا في ميزان القوى، فقد حصدت ما يقارب ستة وسبعين جنديًا وضابطًا سعوديًّا في جبهات الحدود خلال شهرين، حسب إقرار العدو، وقد سمعنا الدورَ الذي لعبته وحدةُ القنص في معارك الساحل.
وستحضر حكاية حقيقة احتكار جيشنا ولجاننا الشعبية لقواعد وأخلاقيات الحرب بصورة غير مسبوقة في جميع تأريخ الحروب انطلاقًا من ثقافتها الإسلامية الصحيحة وقواعدها العرفية المنظمة لأخلاقيات الحروب قبل ظهور قواعد القانون الإنْسَاني الدولي، وقد كان لهذا التميز الأخلاقي والإنْسَاني أَكْبَر الأثر في سير المعارك وفي قلب الموازين لصالح قضيتنا.