الخبر وما وراء الخبر

مـنـطــقُ الـمـحـايـديــن!

186

بقلم / د.إسماعيل محمد المحاقري

فئةُ المحايدين هُمْ إما فئةٌ متأثِّرةٌ بالثقافة النفعية، ثقافة اللامبالاة بقضايا الأمة والشأن العام، والانكفاء حول الذات وتحقيق الطموحات الاقْتصَادية في ظل نظام السوق الحُر، حيث بنظرة النسبية لقيم وأخلاقيات المجتمع وغياب كثيرٍ من المفردات ذات الصلة بقضايا الوطن والروابط الاجتماعية والهُوية، فهؤلاءِ غيرُ قادرين على معرفة الحق أَوْ أنهم عديمو الإحساس بمقتضياته.
والفئةُ الأُخْــرَى هي الفئة العالمة بالحق وأَدَوَاته؛ ولكنها تقفُ موقفَ الحياد هروبًا من تبعات الوقوف مع الحق، مع أن الحيادَ في حقيقته مغادَرةٌ لمنطقة الحق وتبنٍّ لفكرة الظلم والطغيان، وفي المقابل يُعدّ هذا الموقف بمثابة المشارَكة في إضعاف منطق الحق والتشكيك في عدالة وسلامة موقف المدافعين عنه، وهذا هو ما يساعِدُ على توجيه ذهنية البُسَطاء نحو القبول بثقافة الذل والخنوع للظلمة.
كما أن منطقَ الحياد لبعض الشخصيات والرموز الدينية في الصراعات القائمة بين الحق والباطل كان بمثابة السنَد الديني الذي يرتكزُ عليه الطُّغاة في الانحراف بقِيَمِ العدل وسماحة الدين وتمرير ظُلمهم واستبدادهم تحت عباءة الدين، دون خوف من أيِّ رفض أَوْ ردع مجتمعي؛ لأنه مع هذه الثقافة يكون المجتمعُ مهيًا لافتراض تواجُد الحق مع كلا المتحاربين أَوْ المتصارعين وافتراض بقاء الإيمان مع ممارسة البغي والطغيان.
ودعوني أسأل العقلاءَ ممَّن اختاروا طريقَ الحياد في مواجهة هذا العدوان الذي بلغ طغيانه مبلغًا لم يصلْ إليه طغيانُ الصهاينة على أبناء فلسطين، أسألهم: هل بالإمكان أن يكونَ المرء وطنيًا وهو لا يشارِكُ أبناءَ وطنه نضالَهم ضد الغزاة والمعتدين على الوطن؟ وهل يكون المرء شريفًا أَوْ عزيزًا أَوْ كريمًا دون أن يغارَ ويقاوم مَن يعتدي على شَرَفه وكرامته؟ وهل نتصوَّرُ إيمانًا لا تجسّده الأقوال والأفعال؟ وهل سمعنا يومًا أن التأريخَ يمجد المحايدين في القضايا المتعلقة بمصير أَوْطَانهم وقضايا أمتهم؟
قد يبرر البعضُ قعودَه بدعوى أننا في وضع اقْتصَادي وسياسي غير مؤهَّل لرد العدوان، وكان من المفترض أن نبدأ أولًا بإصلاح الأوضاع الاقْتصَادية وتسوية خلافاتنا السياسية.
بخصوص هذا نقول: إن العدوَّ يمارِسُ وصايتَه علينا منذ عشرات السنين، وهو المسؤول عن ضعفنا وخلافاتنا، ومن أفشل كُلّ المحاولات الوطنية لإصلاح أوضاعنا الاقْتصَادية والسياسية والاجتماعية، وهذه قد أَصْبَـحت حقيقةً ساطعةً لا يجهلُها أحدٌ، وهل تعرفون لماذا يُعتدى على وطننا ويُقتَلُ أطفالنا وتدمَّر بُنيتنا؛ لأن شعبنا أغضب أسيادَ العدوان من الصهاينة وأَمريكا فجاء لينوبَ عنه في تأديبنا.
ولأن شعبنا اتخذ قرارَه برفض الوصاية ومشاريع التقسيم والتمزيق لوطنه ووَحدته الوطنية واستمرار العبث بمقدراته وزعزعة أمنه واستقراره وقرّر التخلص من أَدَوَات العدو المسؤولة معه عن كُلّ المشكلات الاقْتصَادية والسياسية والاجتماعية؛ ولأنه قرر أيضًا أن يظلَّ مختلفًا في فكره وتنوُّعه الثقافي والمذهبي محتفظًا بهُويته الإسلامية الأصيلة وخطابه الديني الموسوم بدرع التسامح وَالاعتدال، فهل تُلام الشعوبُ عندما تمارسُ حقوقَها وتدافعُ عن أَوْطَانها وتحمي مقدراتها وتغضبُ لكرامتها وشرفها وتطمحُ أن تعيشَ كغيرها سيدةَ قرارِها مالكةً لإرادتها.
ومن ناحية ثانية إن لسانَ حالكم يقول إن الشعوبَ المستضعفة مرفوعٌ عنها واجبُ الدفاع عن أَوْطَانها وكرامتها وعقديتها وهُويتها، وعليها أن تتحمَّلَ ظلمَ العدوان وطغيانه وانتهاكه لحرماتها ومقدراتها حتى تتوفرَ لديها أسبابُ القوة المادية الموازية لقوة الطغيان، ولعَمْرِي أن هذا هو منطقُ العبيد الضعفاء المفتقرين لأبسط مشاعر الكرامة والغيرة والحمية، مع اعتذارنا للعبيد الأَحْرَار، فلو كانَ هذا منطقهم لما تحرّروا من العبودية فهم لم ينالوا حريتَهم إلا بأشهر ثورة عرفها العالَمُ ضد استعبادهم اعتمادًا فقط على الإرَادَة المعززة بأقدار الله ومشيئته في هذا الكون، وهكذا هو حالُ جميع الشعوب التي انتصرت لمظلوميتها ودافعت عن أَوْطَانها وكرامتها، لم يكونوا يمتلكون إلا إرادةَ التحدّي وَالصمود وعدالة قضيتهم، فهذه أسلحةُ المبغي عليهم لتحقيقِ النصر، وهذا ما تعلّمناه من التأريخ ومن الكتب السماوية التي لم تأتِ لتَحُثَّ الناسَ إلا على مقاوَمة الطغيان ورفض الذل والخنوع للظلمة.