لماذا ارتدّ الإرهاب على تركيا؟
بقلم / العميد د. أمين محمد حطيط
بعد أن نجح حزب العدالة والتنمية والتركي برئاسة رجب طيب أردوغان في الوصول الى السلطة كحركة إسلامية ملتزمة راج يومها تعبير «الحكم وفقاً للنموذج التركي»، عبارة يُعنى بها بشكل خاص أمران… الأول التعبير عن انفتاح هذه الحركة وقدرتها على الانتظام في شبكة العلاقات الدولية دونما مواجهة او استفزاز لأحد، والثاني تقديم نموذج للإسلام المرن الذي يناقض على حدّ قول مطلقي التسمية النموذج الإيراني الذي يصفونه بالمتشدّد او المتطرف. وقد ساهم ما أعلنته حكومة أردوغان من سعي الى علاقات إقليمية ودولية قائمة على قاعدة «صفر مشاكل» في الترويج لهذا «الإسلام التركي العصري»، حتى غدا طموح جهات عديدة بأن يعمّم هذا النموذج ليقطع الطريق على النموذج الإيراني القائم برأيهم على مبدأ تصدير الثورة وفرض الذات بالقوة، كما يزعمون.
ومع اشتعال النار في الجسم العربي والتهامها الدول العربية الواحدة تلو الأخرى اتضح الدور التركي الخبيث، وتبيّن انّ حزب العدالة والتنمية وبوصفه جزءاً من التنظيم العالمي للإخوان المسلمين، المعروف الارتباطات والتوجيه والإيحاءات الخارجية، تبيّن أنّ هذا الحزب وبقيادة أردوغان يسعى لإقامة الخلافة العثمانية واستعادة الامبراطورية التي اندثرت في مطلع القرن العشرين بعد أن حكمت العرب لنيّف و400 عام، وانّ أداته الرئيسية لتنفيذ الحلم الإخواني هي العمل المسلح في الميدان والضغط السياسي خارجه المستند الى دعم غربي هائل بقيادة أميركية وانتظام أوروبي وعربي، بخاصة خليجي، وتحديداً قطر والسعودية.
لقد تراءى لأردوغان انّ العمل المسلح هو الوسيلة التي لا بدّ منها لتحقيق أهدافه في سورية التي أظهرت مناعة وصلابة أمام تلك الأهداف وظهر له أنّ ما صحّ في تونس ومصر، حيث تمكّنت جماعة الإخوان المسلمين من الوصول الى السلطة دون سلاح لن يصحّ في سورية، فكان أول خرق في هذا الإطار تمثل بمحاولة شق الجيش العربي السوري بإطلاق ما أسمي «الجيش السوري الحر» الذي تبيّن انه ليس أكثر من يافطة ترفع لتتحشد تحتها جماعات الإخوان المسلمين برعاية تركية. وبالتالي ومع بدء العمليات العسكرية لهذا التنظيم المصطنع ظهر أنّ القرار التركي والخارجي بشكل عام هو عسكرة ما يُسمّى «الثورة السورية» وشنّ عمليات حربية تستجيب في مواصفاتها وخصائصها لتعريف الإرهاب.
وبعد مضيّ أكثر من ستة أشهر على انطلاق العمل المسلح الموصوف بالإرهاب في سورية، تبيّن لقيادة العدوان أنّ ما يسمّى «جيش سوري حر» لن يكون قادراً بمفرده على تحقيق المطلوب بإسقاط سورية، فكانت الاستعانة بخبرات تنظيم القاعدة، وكان البدء بإطلاق جبهة جديدة أو فرع جديد من القاعدة مخصص لسورية تحت اسم «جبهة النصرة في بلاد الشام» واختصاراً «جبهة النصرة»، بمعنى أنّ الجبهة هذه ليست صاحبة مشروع مستقلّ بل إنها لنصرة مشروع قائم، والمقصود هنا أيضاً المشروع الذي يعمل «الجيش الحر» بقيادة تركية على تنفيذه وهو إسقاط سورية. وبالتالي كانت تركيا العضد والحاضن لهذا الفرع الإرهابي من تنظيم القاعدة.
لكن ومرة أخرى تعجز التنظيمات المسلحة التي ترعاها تركيا مباشرة ومعها الدعم المتعدّد الأشكال خاصة المالي والإعلامي الخليجي والبشري الأجنبي الذي توسّعت قاعدته حتى شملت 85 دولة أتى منها أشخاص حملوا السلاح بوجه الدولة السورية عجزت كلها عن إسقاط سورية رغم تكاثر تفريخ الجماعات المسلحة كالفطر في معظم أنحاء سورية، وهنا كان التوجيه الأميركي لفرع القاعدة في العراق العامل تحت اسم «الدولة الإسلامية في العراق» بالتحوّل إلى سورية ودمج الميدانين السوري والعراقي علّ في الأمر ما يعوّض الإخفاق أولاً ويفتح الطريق أمام التدخل العسكري الأطلسي المقنع والمقيد. وهكذا بدّل ذاك التنظيم اسمه ليضمّ بلاد الشام إليه ويصبح عاملاً تحت عنوان «الدولة الإسلامية في العراق والشام» والتي أحسن من اختصر التسمية بعبارة «داعش» حتى يعطّل السعي الغربي لتلويث الإسلام بإرهاب هذا التنظيم. ومرة أخرى شكلت تركيا الحاضن لمنظمة إرهابية أخرى تكاد تكون الأخطر والأقوى بين التنظيمات الإرهابية في الميدان. وقد قدّمت تركيا نفسها لداعش لتكون القاعدة للتحشّد والاتصال بالعالم الخارجي وخطوط الإمداد والمتنفّس.
لقد لعبت تركيا منذ ست سنوات الدور الرئيسي في رعاية التنظيمات الإرهابية في سورية والعراق، وامتلكت نسبة 70 من أوراقها حتى أضحى صحيحاً القول بأنّ «الحرب على سورية لا يمكن أن تتوقف الا إذا أغلقت تركيا حدودها».
لكن تركيا التي راهنت على الإرهاب في تحقيق أحلامها فشلت في مسعاها وبدأت تتراجع من حيث الأهمية المعوّل عليها حتى اضطرت أميركا قائدة العدوان على سورية إلى إيجاد خطّ موازٍ للخط التركي للعمل في سورية، فكان ابتداع ما أسمي «قوات سورية الديمقراطية» قسد ذات القوام والطبيعة والأهداف الكردية الانفصالية التي تُرعب بنزعتها تلك تركيا وتجعلها تتهيّب الموقف وتخشى على وحدتها أرضاً وشعباً. لأنّ قيام كيان كردي على الحدود الجنوبية لتركيا سيكون بمثابة الصاعق المفجر لتركيا التي فيها 20 مليون كردي على الأقلّ يعامَلون كمواطنين من درجة ثانية او ثالثة، ولذلك فهم يسعون الى نيل حقوقهم ضمن الدولة وإلا…
وفي لحظة صاعقة وجدت تركيا نفسها ملزمة بالتحوّل من اعتماد استراتيجية عدوانية هجومية في سورية لإسقاطها والانطلاق الى إقامة الإمبراطورية العثمانية الجديدة، إلى اعتماد استراتيجية دفاعية لحماية نفسها من خطر التفكك ودفع «الشر الكردي» المتسرّب اليها من سورية.
لقد فرضت الاستراتيجية الدفاعية الجديدة هذه على تركيا اعتماد مواقف ظرفية تجعلها أقرب الى روسيا المنتظمة في معسكر الدفاع عن سورية ووحدة أراضيها، وتُبعدها ظرفياً أيضاً عن أميركا التي ترعى المشروع الكردي لا بل تعتمده لتقسيم سورية.
وصحيح أنّ تركيا لا تستطيع الذهاب بعيداً في انزياحها العارض الظرفي هذا، لكونها عضواً في الحلف الأطلسي وأنها لن تكون صديقاً جدياً لإيران أو روسيا عدوّتيها او على الأقلّ منافستيها التقليديتين في أكثر من عنوان، الا انّ الضرورة جعلت تركيا تلجأ إلى معسكر قوامه هاتان الدولتان مع سورية وحزب الله، وفرضت هذه الضرورات على تركيا اتخاذ مواقف علنية واضحة تعلن الحرب على داعش وجبهة النصرة وهما العمود الفقري للعمل الإرهابي المسلح في سورية لكونهما يمثلان أكثر من 70 من مجمل الجماعات المسلحة هناك.
إنّ هذا الانتقال التركي من دور الحاضن للإرهاب ضدّ سورية الى دور المكافح لتنظيمات الإرهاب الرئيسية أقله إعلامياً أغضب تلك التنظيمات حتماً، كما أثار غضب مكونات أساسية داخل حزب العدالة والتنمية الممسك بالنظام في تركيا، حيث إنّ هؤلاء لم يتقبّلوا فكرة الانقلاب السريع على سياسة عملوا بها ونظّروا لها 6 سنوات على التوالي ويُطاح بها في أقلّ من 6 أيام هي المدة التي استغرقتها المباحثات الروسية التركية الإيرانية التي تمخض عنها إعلان موسكو ثم تفاهم وقف العمليات القتالية في سورية إلا ضدّ داعش والنصرة.
كان لا بدّ للغضب هذا أن ينفجر بوجه أردوغان، بعمليات إرهابية وكذلك ومن قبيل التوسع في التحليل والظنّ وعدم إهمال أي فرضية، فقد يكون أردوغان نفسه بحاجة الى ذريعة أو مبرر ما ليصفّي المتشددين في حزبه ليكون الحزب أكثر طواعية بين يديه، وبالتالي وبعد أن فرغ تقريباً من حملة التطهير التي نفذها على مستوى الدولة والشعب إثر انقلاب تموز الماضي، قد يكون بحاجة إلى ذريعة تبرّر عملية تطهير مماثلة داخل حزبه أيضاً ولهذا كانت العملية الإرهابية الفظيعة التي انتجت 100 إصابة في ملهىً ليلة رأس السنة.
ومع هذه العملية تطرح فرضيات حول الوضع التركي بعد التحوّل العرضي الذي سلكته تركيا وترجمته بالانضمام الى روسيا وإيران ظاهرياً في محاربة الإرهاب وهناك في الأمر 4 فرضيات محتملة:
1 ـ الأولى أن يكون الإرهاب ارتدّ على تركيا في عمل انتقامي لأنها تخلّت عنه وانقلبت عليه. وهنا قد تجمع داعش والنصرة الإرهابيتين مع التنظيمات الكردية العاملة في تركيا ومن سورية أيضاً ضدّ نهج أردوغان الإلغائي والتهميشي للأكراد فيلتقي مطالِبٌ بحق مع مجرم إرهابي في ميدان واحد وضدّ هدف واحد، كلّ من خلفية واتجاه.
2 ـ الفرضية الثانية أن تكون العمليات الإرهابية المستجدّة في تركيا نوعاً من أنواع التأديب الغربي لأردوغان على ذهابه سريعاً وبعيداً في علاقته مع روسيا وإيران في الميدان السوري من دون التقيّد بالأوامر الأميركية ذات الخصوصية.
3 ـ الفرضية الثالثة أن يكون حزب العدالة والتنمية في بعض أجنحته المتشدّدة أراد أن يوجه رسالة تحذير لأردوغان لمنعه من الانقلاب على سياسته السابقة الحاضنة للإرهاب والساعية للخلافة الإسلامية التي ينشدها لنفسه.
4 ـ وفي الفرضية الأخيرة قد يكون أردوغان نفسه هو صاحب الفعل الشنيع هذا لاختلاق مبرّر له لتطهير حزب العدالة والتنمية من الأصوات المناوئة له أو المتحفظة قليلاً على تقلباته.
أستاذ في كليات الحقوق اللبنانية
نقلا عن جريدة البناء