تأثيرات الإعلام في الوعي، وحلوله محل الهويات المقدسة
بقلم / وليد الحسام
من السهل أن تصنع أية أمةٍ واجهتها الشكلية لتتمظهر بها بين الأمم؛ لكن من الصعب أن تدوم تلك الواجهة طويلاً ما لم يكن ما وراءها مجتمعاً مبنياً على أساس الوعي الفكري وثقافة الانتماء التي بدورها ستوجه الأجيال نحو مسار البناء والتنمية والدفاع عن الهوية والانتماء العام دون أن يكون هناك خلل أو تعرُجات في طريق تقدم ونهضة الأمة، فإن هي اهتمت بواجهتها الشكلية فقط فلن تكون إلا كمن تبهرج شكلها الخارجي لتغطي قبحها بأدوات تجميل تسقط مع أول هزة فتتكشف حقائق القُبح ، وأجد في الإعلام ومهنيته المفقودة خلال المرحلة الأخيرة أنموذجاً حياً يجسد تلك الواجهة الهشة التي لا أرى فيها سوى نتيجة واحدة هي الإغراء والافتتان باللا شيء أو بشيء ما كان لابد أن أفصح عنه .
التأثيرات الإعلامية في الذهن العربي لم تعد طبيعية ولم يعُد مفعولها مؤطراً في السياق الذي يجب أن يسير عليه الإعلام باعتباره وسيلة لغايةٍ تسمو بالإنسان وتحرره من مخلفات الماضي المتراكمة على العقليات ، فها هو الإعلام اليوم على رأسه القنوات الفضائية يتجاذب أفراد المجتمعات ويحشدهم بسهولة وربما بكذبةٍ غير منطقية وأحياناً بتزييف مفضوح لدى من يتأمل دون أن يجهد نفسه بالتفكير المتعمق، ولكن الإعلام ربما لم يتح الفرصة للمتأمل ليقرأه وينتقده بما يقدمه من أخبار متسارعة وهمية وملفقة ومدبلجة ومصنوعة تختزل مدارك المتلقي وتربك تفكيره لتشغله عن دوره كمتلقٍ يحلل ويقرأ بطريقته الخاصة، وبهذا يكون الإعلام قد حمل جمهوراً واسعاً إلى غيبوبةٍ ما، وانتقل به إلى فضاءات إيدلوجية مزيفة وواقع مرسوم وفق منهجية تخدم ما وراء الإعلام ؛ وها هو في تطورٍ انتهازي متسارع ليفرض هيمنة على العقل، ويبدو من خلال سيطرته وقدرته على التأثير وتحشيد في أوساط المجتمعات يكاد أن يتحول من أداة إلى آلهة العصر بحيث إنها تستطيع أن تفرض على المتشددين فروض الطاعة التي تؤدى لتلبي سياسة من يوجهون توجيهاتهم عبر تلك الآلهة المثيرة .
لا أقول هذا على سبيل الانتقام أو الحقد على الإعلام فأنا كغيري بحاجة للإعلام لكن ليس كما يريد مستغلوه ولم أكتب هذا كحالةٍ طبيعية يقوم بها أي كاتب بل إن أبعاد تأثيرات إعلام اليوم واضحة وتظهر انعكاساتها الخطيرة بشكل ملفت على المجتمعات ، حيث أجده قد سلب من سدنته هوياتهم الأصلية وأصبح هو هويتهم التي يتحركون في دائرتها ووفقاً لما يطرح إعلامياً، وثمة مَن فقدوا علاقاتهم الطبيعية كبشروأصبحوا يمتلكون علاقةً أحادية يتحكم فيها الإعلام الذي يمثل الطرف الآخر لتلك العلاقة التي سيجد أصحابها أنفسه ضائعين يوماً ما.
يمكنني أن أختصر حقيقة ما يُحدثه الإعلام من خلقٍ لتوجهات جديدة للشعوب في أنه _أي الإعلام _ عمد إلى أن يتغافل عن القضايا الأساسية للإنسان العربي التي تربى ونضج عليها وهي القضايا الدينية والوطنية والقومية ؛ ولكي يستطيع أن يدفنها ويتخلص من ارتباط أبناء الشعوب بها فقد أوجد الإعلام قضايا أخرى وروج لها بكل إمكانياته مستغلاً الزمن وجعل من تداولها ظاهرةً شائعة وبعد ذلك روج لها بأنها هي القضايا الأساسية فانجذب لها كثيرٌ من عامة الناس الذين تفاعلوا معها بحماسٍ كبير أنساهم قضاياهم الجذرية ، وهنا يكون الإعلام قد حقق مهمته بأن أحلّ قضاياه التي لا قيمة لها محل القضايا ذات القِيم المُثلَى ، وحلّ الإعلام في العقل محل الثوابت اليقينية والمقدسة وأصبح منهجاً متبعاً لا شعورياً أو بدون وعيٍّ بدلاً عن المنهاج السماوي، حتى في أوساط النُّخَب والشرائح المتعلمة نجد مَن يؤدون فروض إيمانهم وعقيدتهم لتلك الآلهة (الإعلام) إذ نجد مِنهم مَنْ يعيش واقعاً معيناً ويعرف كلِّ تفاصيله لكنه عند قرأته لواقعه وتقديمه للآخر يرمي الحقائق التي أمامه ويغض طرفه عنها ثم يأتي ليقدم ما يمليه عليه الإعلام الذي يحكمه ، ويتحدث عن الواقع الذي بين يديه في إطار المنهجية السياسية التي تنتهجها أصنام ما وراء الإعلام .