ماذا بعد الإعتراف..؟
بقلم / فؤاد الجنيد
لا تؤذينا أصوات الصواريخ المتساقطة على رؤوسنا، بقدر ما تؤذينا أصوات الساقطين ابتهاجاً بها، والمبرّرين لأهدافها، والمبرّئين لمرتكبيها، والباعثين من برزخ الإرتزاق قيامة من التضليل والإفتراء.. مجزرة تلو أخرى تضاف إلى رصيد “التحالف العربي” الزاخرة صفحاته بأرقام الضحايا وفنون التنكيل، مجازر يومية يجاهر بها الطيران مستعرضاً قدراته القتالية على الأبرياء الآمنيين في تعرّي واضح للروح الإنسانية والأخلاقية..
مجزرة الصالة الكبرى كانت المشهد الأشدّ دموية ووحشية والسقوط المدوّي الأكبر. إستهداف طال معزّين وسط العاصمة صنعاء، نفى “التحالف” حينها مسؤوليته عن الاستهداف، وترك المجال كعادته لمن يمتلكون الخيال الواسع وموهوبي كتابة الأساطير والماهرين في إنشاء الحكايات والروايات التي تحجب الشمس بغربال أجوف، فرغم وضوح الدلالات والقرائن في مسرح الجريمة، وأصوات شهادات الناجين والجرحى بأن الإستهداف كان بغارات الطيران، إلا أن أولى الروايات اتّهمت “أنصار الله” باستهداف القاعة بصواريخ باليستية للقضاء على قيادات أمنية وعسكرية تابعة لـ”حزب المؤتمر”، الحليف المباشر . ثم تطوّر الأمر إلى تبنّي “داعش” للعملية بعبوات ناسفة زرعت في أرضية القاعة، تلتها روايات عدّة تحمّل في مجملها الداخل اليمني مسؤولية المجزرة لأسباب تتعلّق بالرغبة في التصفيات، ولوجود تصدّع كبير في الجبهة الداخلية اليمنية الصامدة لقرابة العامين .
حتّى وصل الأمر بتلك الأصوات والأقلام إلى إنشاء صفحات وهمية في مواقع التواصل الإجتماعي تحمل أسماء لأبناء بعض الشهداء من القيادات التي قضت نحبها في المجزرة وتوظيفها لشب نيران التخوين الموجّهة، وصب كيل الإتّهامات لهذا على ذاك لغرض شقّ الصفّ الواحد، وتبرئة “التحالف” من الجريمة، قبل أن ينتهي الأمر بربط حدث القاعة باستهداف خيمة لعزاء آل الشدادي في قلب مدينة مأرب التي تقع تحت سيطرة “التحالف”.. ومع توسّع رقعة التنديدات العالمية بالمجزرة ومطالبة “التحالف” بتحقيق شامل لإيضاح ملابسات القصف اللامسؤول، خرج “التحالف” من صمته ببيان يعترف فيه بالإستهداف ويحمّل قيادات عسكرية يمنية تتبع الفار هادي مسؤولية المعلومات الإستخباراتية الخاطئة، والإنفرادية في قرار الإستهداف دون الرجوع لغرفة عمليات “التحالف”. هذا البيان، بصرف النظر عن مصداقيته من عدمها، يحمل في طياته أبعاداً كثيرة وكأنه يريد أن يقول بأن مجزرة عرس سنبان وعرس المخا وعزاء حي الهنود وعمال مصنع العاقل وسوق مستباء حجة ومئات المجازر اليومية المماثلة ليست أكثر من معلومات خاطئة وردتنا من عملائنا على الأرض،
ولا علاقة لـ”التحالف” بها من قريب أو من بعيد. هذا التنصّل المفاجئ يوحي بمدى فداحة تبعات الأمر، ومدى الضغط الدولي على السعودية في وضع حدّ للحرب الطويلة التي أثبتت فشلها إلا على المدنيين من الأطفال والنساء والشيوخ، ويوحي أيضاً بدنوّ الفصل الأخير من “عاصفة الحزم” و”إعادة الأمل” التي أنتجت تدويلاً لقضايا المنطقة ومهّدت لميلاد صراع جدي لن تنجو منه الدول العظمى اللاهثة للحصول على موطئ قدم في المياه الإقليمية والممرّات الإستراتيجية.. بيان “التحالف العربي”،
الذي جاء ليخمد ألسنة اللهب المتأجّجة في أحشاء كل يمني، جاء ليشعل نيراناً أخرى للثأر والإنتقام، ويخرس الألسن المضلّلة، وينبّه اليمنيين إلى ضرورة التريّث وعدم التسرّع في إطلاق الأحكام جزافاً بناء على تحليلات مغرضة تذرّ الرماد على العيون. هذا “التحالف” لم يكن وحده من تعلّل بمعلومات خاطئة لتبرير جرمه الذي لا يسقط بالتقادم، فالتدخّل الأمريكي المباشر في قصف رادارات الجيش اليمني كان بناء على معلومات ورسائل خاطئة بعثتها المدمّرة ماسون، وهو تأكيد للنفي الرسمي اليمني بعدم الإستهداف، وهو الأمر الذي يكشف مدى الإستخفاف والإستحمار التي تمارسه القوى العالمية لإنتاج ذرائع عنكبوتية لغرض التركيع والإحتلال ومصادرة الحقّ في السيادة الوطنية والإستقلال..
إننا كيمنيين كنا ندرك جيداً أن الرياض ستتخلّى يوماً ما عن نزلاء فنادقها، لكنا لم نكن ندرك أن النهاية ستكون بهذه الصورة المهينة التي جعلت الشرعية، الباحثة عن حماية، تتحمّل كلّ جرائم “التحالف” الهجين لتحميه، وتتلبّس الجرم بداعي الخطأ تارة والتنفيذ الأحادي تارة أخرى..