بصماتُ الإدارة الأمريكية في جريمة الضاحية الجنوبية
ذمــار نـيـوز || تقارير ||
24 سبتمبر 2024مـ 21 ربيع الاول 1446هـ
تقرير|| الدكتور عبد الرحمن المختار
ليس مبالغةً القولُ إن كيانَ الاحتلال الصهيوني -وعلى فرض أنه دولةٌ طبيعيةٌ حقيقيةٌ مستقلَّةٌ عن غيرها- لا يمكنُها بحال من الأحوال أن تنفِّذَ أيةَ عملية من العمليات الإجرامية القذرة إلَّا بمساعدة القوى الاستعمارية الغربية.
وهذا في حال سلَّمنا أن الكيان الصهيوني دولة قائمة بذاتها مستقلة عن غيرها، كما هو حال غيرها من الدول، أما وهذه الدولة لا تعدو عن كونها كياناً وظيفيًّا مهامُّه محدّدة سلفاً منذ إنشائه في أربعينيات القرن الماضي، وأي منصف لا يسعه إلا القبول بهذه الحقيقة؛ فالكيان الصهيوني ليس دولة طبيعية تكونت بفعل تبلور عناصرها أَو أركانها الثلاثة المتمثلة في الشعب والإقليم والسلطة السياسية، كما هو الحال بالنسبة لنشأة وتكوين الدول الأُخرى؛ فشعب هذه الدولة المسخ جرى جلبُه من أصقاع الأرض بعد الإعلان عن قيامها، والأصل أن تمر أركانُ الدولة ومنها ركن الشعب بمراحل تطور متعددة تتوج بنشأة الدولة.
أما دولة الكيان الصهيوني فهي الدولة الوحيدة في العالم التي لم تمر أركانها بمراحل تطور، بل إنها نشأت بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، وهذا في الظاهر طبعًا أما الحقيقة فَــإنَّها نشأت بإرادَة القوى الاستعمارية الغربية؛ لتمثل وجهاً استعماريًّا جديدًا لهذه القوى، ولتمثل قاعدة متقدمة لها في منطقة الشرق الأوسط، بعد أن أقلعت عن أُسلُـوبها الاستعماري التقليدي القائم على الاحتلال العسكري المباشر لإخضاع شعوب المنطقة، وما ترتب على ذلك الأُسلُـوب من أثمان باهظة دفعتها القوى الاستعمارية مادية وبشرية؛ نتيجةً لمقاومة الشعوب العربية، وما ترافق مع ذلك من نظرة عدائية من جانب هذه الشعوب تجاه هذه القوى الاستعمارية الغربية الإجرامية؟!
ولذلك ارتأت هذه القوى تغيير أُسلُـوبها الاستعماري القديم بأُسلُـوب جديد تحقّق من خلاله أهدافها دون حاجة إلى تواجدها في صورة احتلال عسكري مباشر، لكنها وفي ذات الوقت أوجدت لها قاعدة عسكرية دائمة لإسناد أُسلُـوبها الاستعماري الجديد، هذه القاعدة اسمها دولة “إسرائيل”، التي شطرت بها القوى الاستعمارية الغربية وحدة جغرافيا الشعوب العربية إلى شطرَينِ، عبثت فيهما ولا تزال تعبث كما يحلو لها، وفي حال استعصى عليها أي جزء في هذه الجغرافيا تعمد إلى تسليط أجهزتها الاستخبارية وقواتها العسكرية المتواجدة بشكل دائم في قاعدتها المسماة دولة “إسرائيل”، ولا يعني ذلك أبداً أنها تكتفي بإسناد المهام إلى هذه القاعدة، بل إنها تكون حاضرة في جميع المراحل بداية بالتخطيط وانتهاء بالتنفيذ، وهذه القوى وعلى رأسها الإدارة الأمريكية حاضرة بشكل مباشر وغير مباشر في كُـلّ المهام الإجرامية التي تنفذها قاعدتها العسكرية دولة الكيان الصهيوني بحق شعوب المنطقة العربية.
وتلعب الإدارة الأمريكية في ذات الوقت أدواراً تمثيلية تضليلية متعددة منها الوساطة والضغوط على قاعدتها العسكرية، والنقد الحاد لتصرفات بعض منتسبيها وفرض العقوبات على البعض الآخر منهم، والمطالبة للأطراف المعتدى عليها من جانب قاعدتها العسكرية بضبط النفس، والتهدئة وعدم التصعيد، وفي المقابل تطمئن قواتها في قاعدتها العسكرية بأنها تقف إلى جانبها في جميع الظروف والأحوال، وأنها ملتزمة بأمنها وحمايتها في مواجهة المخاطر المحيطة بها، وفي جريمة الضاحية الجنوبية الإجرامية الثلاثية زعمت الإدارة الأمريكية، أن “إسرائيل” لم تبلغها بما تنوي فعله، وهي تتحدث بطبيعة الحال عن جريمة تفجير أجهزة البيجر.
وبنظرة متأنية فاحصة سيجد الباحث عن الحقيقة أن أجهزة المخابرات التابعة للإدارة الأمريكية هي التي تصول وتجول في أرجاء لبنان، وهي من تجند العملاء، وهي من تحدّد الإحداثيات وتزود بها قاعدتها المتقدمة، وهي من يخطط وهي من يأمر بالتنفيذ ويشرف على جميع الخطوات، ومع كُـلٍّ ذلك فالإدارة الأمريكية اعتادت على استغفال الشعوب العربية والسخرية منها، ولم تعد تقيم أي اعتبار لانفضاح وانكشاف أساليبها الإجرامية؛ بسَببِ اطمئنانها إلى جدوائية وظيفة الأنظمة العربية العميلة، التي لم تدخر وسعاً في خدمة هذه الإدارة فخدرت الشعوب وصرفتها تماماً عن قضاياها المصيرية إلى ما تجود به عليها الثقافة الغربية الانحلالية المنحطة من تفاهات، واستخدمت الأنظمة العربية الوفرة المالية والماكينة الإعلامية الضخمة لتضليل شعوب الأُمَّــة العربية وصرفها عن إدراك حقيقة الإدارة الأمريكية، وما تقترفه قاعدتها العسكرية المسماة دولة “إسرائيل” من جرائمَ في حق الشعوب العربية لحساب القوى الاستعمارية الإجرامية الغربية، وعلى رأسها الإدارة الأمريكية.
ولو لم تكن “إسرائيل” عبارة عن قاعدة عسكرية واستخبارية للقوى الاستعمارية الغربية، لبادرت هذه القوى على أقل تقدير إلى إدانة الجرائم التي تقترفها بحق المدنيين من أبناء شعوب الأُمَّــة العربية، وآخرها جريمة تفجير أجهزة البيجر في لبنان، والتي تمثل جريمة بشعة بكل ما للكلمة من معنى، ووفقاً لكل القيم الإنسانية والأخلاقية والقوانين الوضعية، التي توافقت عليها سابقًا من تسمى بمنظمة الأمم المتحدة، والتي كان للقوى الاستعمارية الدور الأبرز في صياغتها وإخراجها إلى حيز الوجود، وكذلك الحال بالنسبة لجريمة اغتيال الشهيد القائد المجاهد إسماعيل هنية، وهو ضيفٌ على دولة مستقلة ذات سيادة، عضو في منظمة الأمم المتحدة، كان كُـلّ ما طالبت به القوى الاستعمارية الغربية وعلى رأسها الإدارة الأمريكية ضبط النفس وتجنب التصعيد.
وبدلاً عن الإدانة التي تمثل الحد الأدنى من الواجب الإنساني، بادرت الإدارة الأمريكية وغيرها من القوى الاستعمارية الغربية إلى إطلاق التحذيرات والتهديد والوعيد وَحشد قوات عسكرية ضخمة لتعزيز قواتها المتواجدة في قواعدها المنتشرة على طول وعرض النطاق الجغرافي لشعوب الأُمَّــة العربية تحت عناوين حماية “إسرائيل” والدفاع عنها في مواجهة التهديدات المحدقة بها، وهي في حقيقة الأمر بدفاعها عن “إسرائيل” إنما تدافع عن وجودها في المنطقة وتدافع عن قاعدتها المتقدمة، وتدافع عن نفسها، واليوم وفي ظل التوتر القائم في الحدود الشمالية للأراضي المحتلّة سارعت الإدارة الأمريكية بتوجيه حاملة طائراتها (ثيودور روزفلت) إلى شرق البحر المتوسط، فهل توجيه حاملة الطائرات يأتي في سياق قمع سلوكيات مسمى دولة “إسرائيل” الإجرامية؟ ليس الأمر كذلك، بل يأتي تواجد حاملة الطائرات في شرق البحر المتوسط إلى جانب قواتها المتواجدة في أغلب النطاق الجغرافي لشعوب الأُمَّــة العربية في سياق حماية نفسها، وارتكاب المزيد من الجرائم بحق الشعب اللبناني، الذي رفض الخضوع والإذعان لإملاءات الإدارة الأمريكية عقب عملية السابع من أُكتوبر الماضي، للتخلي عن مساندة الشعب الفلسطيني، الذي تقترف بحقه القوى الاستعمارية الصهيوغربية جريمة إبادة جماعية، منذ ما يقرب من عام.
وذلك يؤكّـد بما لا يدع مجالاً للشك أن الأجهزة الاستخبارية للإدارة الأمريكية هي من خطط وهي من جمع المعلومات وهي من فخخ أجهزة البيجر وهي من نفذ جريمة تفجيرها، وما الموساد والشاباك إلَّا جهازان من أجهزتها الاستخبارية المتعددة المهام، وينطبق ذات الوصف على الأجهزة الاستخبارية في الدول العربية، خُصُوصاً تلك التي تدين بالولاء للإدارة الأمريكية، ومن ثم لا يعد مستساغاً حديث الإدارة الأمريكية عن عدم علمها أَو عدم إبلاغها بما فعلته أَو تنوي فعله قاعدتها المتقدمة في المنطقة؛ فكل ذلك يندرج في إطار مسلسل التضليل والتمثيل الذي تفننت هذه الإدارة المجرمة في إتقانه، وساعدها في إخراجه الإعلام العربي الذي ينقصه الوعي وتنقصه المهنية، ونقصد به الإعلام المساند، أما ذلك النوع من الإعلام العربي المنحاز لقوى الإجرام فهو منغمس تماماً إلى جانب القوى الاستعمارية الغربية في جريمة الإبادة بحق أبناء الشعب الفلسطيني وجرائمها بحق الشعوب العربية الأُخرى.
والأصل أن يركز الإعلام المساند بكل إمْكَانياته على كشف الوجه القبيح للإدارة الأمريكية التي تقترف منذ ما يقرب من عام كامل أفعال جريمة إبادة جماعية مُستمرّة ومتتابعة بحق أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، ولا يزال هذا الإعلام المساند يتعاطى مع دور الإدارة الأمريكية على أنه مساندٌ أَو داعِمٌ أَو مموِّل أَو مزوِّدٌ لكيان الاحتلال الصهيوني بمختلف أنواع السلاح والعتاد الحربي، بينما الحقيقة الواضحة الجلية أن الإدارة الأمريكية هي مرتكبة جريمة الإبادة الجماعية، ولها سوابقُ إجرامية؛ فقد اقترفت عقب تأسيسها إبادة جماعية بحق سُكَّانِ أمريكا الأصليين من الهنود الحمر، وارتكبت جريمةَ إبادة جماعية بحق مدينتَي نكازاكي وهوريشيما اليابانيتَينِ، وارتكبت جرائم إبادة في نطاقات متعددة من الجغرافيا العالمية، هي كذلك ارتكبت ولا تزال ترتكب جريمة إبادة جماعية منذ تأسيس قاعدتها العسكرية المتقدمة في الشرق الأوسط المسماة دولة “إسرائيل”.
ولو لم تكن الإدارة الأمريكية هي المسؤولة عن ارتكاب أفعال جريمة الإبادة الجماعية بحق أبناء الشعب الفلسطيني عُمُـومًا وبحق أبناء غزة خُصُوصاً، لما انبرت للحيلولة دون منع وقمع أفعال هذه الجريمة، ولما وقفت سداً منيعاً في وجه كافة الفعاليات الدولية لإدانة مقترف الجريمة، ولما وقفت بكل إمْكَانياتها العسكرية في وجه القوى الحية في دول المنطقة المدافعة عن مظلومية الشعب الفلسطيني، وكلّ ذلك يؤكّـد أن الإدارة الأمريكية إنما تعمل على حماية وجودها في المنطقة، ورأس حربة هذا الوجود دولة الكيان الصهيوني، قاعدتها العسكرية المتقدمة في المنطقة، وتعمل على فرض سيطرتها على شعوب المنطقة بالقوة المسلحة، وبتلك الجرائم الوحشية التي تقترفها بشكل مباشر وغير مباشر على كامل النطاق الجغرافي لشعوب الأُمَّــة العربية، وآخرها الجريمة الهمجية الوحشية الغادرة بحق أبناء الشعب اللبناني.