الخبر وما وراء الخبر

اليمن و”طوفان الأقصى”: أكبر من سفينة.. وأكثر من دَعْم

13

تحليل // السيد شبل

عندما فرّ المستوطنون من شمال الأراضي المحتلة على وقع صواريخ “حزب الله” كانت وجهتهم إلى الجنوب أي إلى “إيلات” لقضاء وقت آمن في فنادقها وملاهيها، هنا كانت صواريخ “أنصار الله” بانتظارهم.

لسنواتٍ لم يشعر الفلسطينيون بأنّ ثمّة طرفاً عربياً، خارج بلاد الشام، على استعدادٍ للذهاب إلى أبعد مدى في دعمهم، حتى دخلت حركة “أنصار الله” على خط المقاومة، فأعادت إلى الفلسطيني ثقته بقدرة قضيته على حشد المقاومين في مختلف الساحات. ليُثبت اليمنيون أنهم أنصارٌ لله اسماً ومسمّى، وبالتالي فهم أنصارٌ لمستضعفي فلسطين فعلاً وعملاً.

اللافت في دخول صنعاء على خط المواجهة منذ انطلاق عملية “طوفان الأقصى” في الـ 7 من تشرين الأول/أكتوبر أنها لم تكن مطالبة بذلك، فالكلّ يدرك بُعد المسافة بين اليمن وبين الأراضي المحتلة، كما يعرف الجميع الصعوبات التي يعيشها اليمنيون بسبب الحرب التي شنّها عليهم “التحالف العربي بقيادة السعودية” على مدار نحو 8 أعوام، لكن أهل اليمن اختاروا القتال رغم كلّ المعوّقات.

على مدار الأسابيع الماضية استمرت القوات المسلحة اليمنية في إطلاق الصواريخ والمسيّرات باتجاه أم الرشراش المحتلة “إيلات”، ولا تكمن عبقرية هذا العمل العسكري فقط في قدرته على تخريب منشآت تابعة للاحتلال أو إسقاط قتلى بين صفوفه، وإنما تكمن في قدرة محور المقاومة على اصطياد الإسرائيلي أينما كان. فعندما فرّ المستوطنون من شمال الأراضي المحتلة على وقع صواريخ “حزب الله” كانت وجهتهم إلى الجنوب أي إلى “إيلات” لقضاء وقت آمن في فنادقها وملاهيها، هنا كانت صواريخ “أنصار الله” بانتظارهم. لتعلن المقاومة رسالتها: أن لا مكان آمناً للمحتل على أراضي فلسطين.

لم تكتفِ صنعاء بصواريخها التي عبرت البحر الأحمر طولاً لنحو 2000 كم أو أقلّ قليلاً، بل صعّدت من مشاركتها في “طوفان الأقصى”، فكان إعلان قائد حركة أنصار الله، السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي، في 14 تشرين الأول/أكتوبر، “أنّ القوات المسلحة اليمنية ستظفر بسفن الاحتلال في البحر الأحمر”، وجاء التنفيذ مُصدّقاً الوعيد في الـ 19 من الشهر ذاته، بإعلان العميد يحيى سريع، أنّ القوات البحرية اليمنية نفّذت عملية عسكرية كان من نتائجها احتجاز سفينة إسرائيلية واقتيادها إلى الساحل اليمني.

اعترف العدو بأن السفينة بالفعل تابعة لأحد رجال الأعمال الإسرائيليين، ويُدعى رامي أونجر، ويملكها بشكل كلي أو جزئي، وأنها كانت تحمل سيارات، وتشقّ طريقها من ميناء في جنوبي تركيا إلى ميناء في غربي الهند. علماً بأنّ “إسرائيل” دوماً ما تعتمد في حركتها بالبحر الأحمر على التهريب والتمويه، إذ لا ترفع العلم الإسرائيلي على سفنها، وهنا تتكشّف قدرة أخرى من قدرات المقاومة الاستخباراتية، والتي مكّنتها من تحديد هوية السفينة و”جنسية” مالكيها.

في محاولة لطمأنة دول المنطقة والعالم التي تستخدم باب المندب للعبور من البحر الأحمر إلى المحيط الهندي، ولقطع الطريق على أي محاولة لتجيير الموقف أو الحشد ضد صنعاء، أعلنت القوات المسلحة اليمنية أنها “لا تهدّد إلا سفن الكيان الإسرائيلي والمملوكة لإسرائيليين”، وهو موقف يكشف مدى الوعي الذي تتمتّع به القوى التي تدير المعركة من اليمن اليوم، كما أنه يتسق بطبيعة الحال مع المبادئ التي تتبنّاها.

أصابت تلك العملية واشنطن بصدمة، فالبيت الأبيض منذ اليوم الأول لاحتدام الصراع في فلسطين، يحرص على عدم اتساع جبهات القتال، وهو لا يريد أن تتشكّل ضمن تلك الظروف جبهة واسعة ترفع شعار العداء لكامل منظومة النهب الغربية، وتوجّه سلاحها، من دون تردّد أو وجَل، إلى القواعد العسكرية الأميركية في العراق وسوريا أو إلى أساطيلها الجوّالة في البحر الأبيض والأحمر.

تحذّر “السي آي إيه” من ارتفاع منسوب العداء للولايات المتحدة الأميركية في الشرق الأوسط بسبب انحيازها العارم إلى “تل أبيب”، لكن المشكلة التي تواجه الإدارة الأميركية حالياً لا تنحصر في “أن العرب يكرهون بايدن ومن سبقوه”، فالمشاعر بحد ذاتها لا تعني أحداً طالما ظلّت حبيسة الصدور.

مشكلة البيت الأبيض اليوم أن تلك الكراهية بدأت تجد طريقها للترجمة إلى أفعال على أرض الواقع، وأن تياراً شعبياً ضخماً بدأ يلتفّ حول محور المقاومة بعد إحرازه انتصارات متتالية، وأن كثيراً من العرب قد تحرّروا من الخطابات الطائفية والدعاية الكاذبة التي وضعت حاجزاً بينهم وبين أولئك المقاومين الذين لم يتردّدوا يوماً في دفع ضريبة الدم حتى تتحرّر المنطقة بأسرها من الهيمنة الأميركية وتنزاح الغُمّة الصهيونية عن أرض كنعان.

من الطبيعي إذاً أن يشعر الأميركي بالخطر، كما من المنطقي أن يشتدّ أزر فصائل المقاومة الفلسطينية بالعمليات التي تنفذها المقاومة من جنوب لبنان أو من صنعاء، أو بانتصارات الجيش العربي السوري على آخر فصول المؤامرة. كلّ هذا من شأنه أن يضع القضية الفلسطينية في موضعها الصحيح كقبلة للمقاومة في المنطقة، بل ما هو أكثر كرأس حربة للمتغيّرات الدولية بأسرها، والتي تبشّر بعالم جديد متعدد الأقطاب عن حقّ.

أشادت الفصائل الفلسطينية كافة من حركة حماس إلى الجهاد إلى الجبهة الشعبية بتمكّن المقاومة اليمنية من السيطرة على سفينة إسرائيلية، لا لأنها تؤلم العدو وتحرمه من أمانه فقط، بل لأنها تُدخل المعركة بالفعل في مرحلة جديدة. مرحلة تدفع العدو الإسرائيلي إلى إدراك أنه محاصر ومطارد ومُستهدف داخل الأراضي المحتلة وخارجها.

ما يلفت النظر هو اهتمام العدو الإسرائيلي بالجبهة اليمنية منذ فترة طويلة وتوقّعه تطوير قدراتها، وذلك على العكس من كثيرين قلّلوا من إمكاناتها أو شكّكوا في قدرتها على تأدية دور إقليمي يتخطّى حدود اليمن.

على سبيل المثال، عندما قامت حركة أنصار الله بقصف أبو ظبي أكثر من مرة في مطلع العام الماضي 2022، وكانت إحدى المرات بالتزامن مع زيارة الرئيس الإسرائيلي إسحق هرتسوغ للإمارات، شعر المسؤولون الإسرائيليون بالهلع، ونشر “معهد القدس” تقريراً مفصّلاً، يقول بصريح العبارة “إنها اقتربت”، وإن القيادات الإسرائيلية قلقة، فالمسافة التي تفصل بين اليمن والإمارات 1500 كم، وهي أدنى قليلاً من المسافة بين اليمن وجنوب “إسرائيل”، وأن المسيّرات التي هاجمت الإمارات من نوع “صماد 3” ويمكن أن تصل إلى 1700 كيلومتر، وهكذا ستطال “إيلات”، وهو ما كان بالفعل.

عبقرية التوقيت… وجسامة الهدف

باحتجاز السفينة الإسرائيلية “غالاكسي ليدر”، يوم الـ 19 من تشرين الثاني/نوفمبر، تكون القوات البحرية قد نجحت في توجيه عدد من الرسائل، منها ما هو موجّه إلى “تل أبيب”، ومنها ما يتخطّى ذلك ليصل إلى مسامع البيت الأبيض والعالم أجمع، ومنها ما يستهدف المواطنين العرب والمسلمين في كل مكان حول العالم، يمكن إجمالها في الآتي:

أولاً: التعاطف مع الفلسطينيين لا يعني مجرّد التباكي على الشهداء أو التأوّه عند مشاهدة الأطفال الجوعى النازحين برفقة أسرهم، بل يعني التضامن معهم في دربهم الطويل الذي ساروا فيه لتحرير أراضيهم من الاحتلال بكل سبل المقاومة المتاحة، وهذا يشمل فعل كل ما هو متاح لإيذاء وإضعاف وتشتيت تركيز عدوّهم الإسرائيلي، وهذا ما يقوم به بالفعل محور المقاومة على مختلف الجبهات.

ثانياً: الكيان الإسرائيلي هشّ وضعيف رغم عدوانيّته المُفرطة والدعم الغربي الذي يتمتع به، ويمكن النيل منه وإرباكه، فقط، إذا توفّرت الإرادة وتحلّت المقاومة بالصبر والثبات.

ثالثاً: القوات المسلحة اليمنية نجحت في تطوير قدراتها على التتبّع والرصد، وذلك بالتعاون مع كامل المحور المقاوم الذي تنتمي إليه، مما مكّنها من تحديد هوية السفينة المحتجزة، رغم أن السفن الإسرائيلية دوماً ما تعتمد أسلوب التمويه في البحر الأحمر.

رابعاً: “إسرائيل” ستنزف من دمها واقتصادها طالما استمر عدوانها، فعملية اليمن الأخيرة، ستُلحق أضراراً بالغة بالتجارة البحرية الإسرائيلية، إذ سيصبح عمّا قريب البحر الأحمر منطقة محرّمة على السفن الإسرائيلية، هذا مع العلم بأن “جيش” الاحتلال برّر عدوانه على مصر في حزيران/يونيو1967 بقرار الزعيم الراحل جمال عبد الناصر إغلاق مضيق تيران في وجه الملاحة الإسرائيلية.

خامساً: كلّ ما هو مرتبط بالغرب و”إسرائيل” بات هدفاً، وهي رسالة شديدة الأهمية، فالعالم كله تابع المظاهرات العربية التي حاصرت سفارات الدول الغربية بسبب دعمها للاحتلال الإسرائيلي، إضافة إلى قصف القواعد العسكرية الأميركية، وانتهى الأمر باحتجاز سفينة إسرائيلية بهذه الضخامة على شواطئ اليمن.

سادساً: الخناق يضيق يوماً بعد آخر على الوجود الأميركي (بما يشمل “إسرائيل”) في منطقة الشرق الأوسط، وهو أمر لا يمثّل مصلحة للعرب فقط، بل مصلحة لكل دول الجنوب التي تطمح لإضعاف الولايات المتحدة والتحرّر من هيمنتها، كما هو مصلحة لبكين وموسكو، التوّاقتين لظهور عالم جديد بحسابات مختلفة. وبهذا تكون صنعاء قد وضعت نفسها في قلب العالم ومتغيّراته، لا في قلب محيطها الإقليمي فقط.