الخبر وما وراء الخبر

فراقٌ من بعدهِ لِقاءٌ أبدي.

19

بقلم //إقبال جمال صوفان.

هي الأيام تمضي سريعة دون توقف ، نعيشُ فيها الحزن والفرح مرة جميعاً ومراتٍ فُرادى ، ولكن الجزء الأكبر منها الحنين لمن ذهبوا عنّا وظلّت أرواحنا تترقب عودتهم.

للتعلّق أنواع عديدة ولكن أشدّه هو تعلّق الأم بطفلِ قلبها الّذي عاش فِيْ أحشائها تسعة أشهر كاملة ، ومن ثم تربّى على يديها خطوة بخطوة ، ليكبر هذا الطفل ويُصبح رجُلاً تستند عليهِ في حياتها ، وما أعظم هذا الرّجُل حين يكون مُجاهداً فِيْ سبيلِ الله ، وهنا سأذكر *الشّهيد المُجاهد/ أحمد عبدالصمد المتوكل* شابٌ فِيْ مقتبلِ العمر ، أخذَ الكثير مِنْ الدورات العسكرية والثقافية عُرف بالصدقِ والوفاء ، لهُ الكثير من الأصدقاء الّذين رافقهم وزرع فيهم ثقافة الجهاد والإستشهاد ، كان ألطفهم فِيْ الكلام وألينهم فِيْ التعامل وأروعهم فِيْ التضحية ، عَرفَ أنَّ ذروة الدّين جهادٌ فِيْ الصّميم.

كانوا ستةُ مجاهدين فُجروا بلُغمٍ عسكري كان أحمد من بينهم ولكنه خرج سليماً مُعافى، فسارع في القيام بواجبهِ الجهادي وأسعفهم بدراجة نارية واحداً تِلو الآخر ليكونَ بذلكَ شبيهاً للشّهيد طومر في إصرارهِ وثباتهِ ووفائهِ لرفاقه وقد جسّد بذلك الوفاء في أبهى صوره، ومن بعدها جاء لزيارة أُسرته قبل العيد بـثلاثة أيام دون أن يخبرهم بذلك، وبتوفيقٍ من الله حظى الشّهيد بلقائهم جميعاً كبيراً وصغيراً وسألته والدته : هل ستقضي العيد معنا ياأحمد؟ فأجاب “ما العيد إلا في الجبهة ياأمي” حينها قرر أباهُ ذبح ضحية العيد فِيْ ذلك اليوم الّذي أتى فيه ليأكل نصيبه ولكنهُ لم يرضَ أن يتناوله في البيت وإنما أخذهُ وذهب ليتشاركه مع رفاقهِ المُجاهدين وتحركوا نحو جبهةِ مأرب ، كان في مقدمةِ الصفوف العسكرية دائماً قاتل حتّى لقي الله شهيداً بجوارِ أخيه الذي سبقهُ إلى جناتِ النّعيم ، وصلنا خبر استشهادهِ فتأثرنا كثيراً على ذلك النّجم الذي كان يسطع في كبدِ السّماء، شابٌ يُحبه الجميع معروفٌ بأخلاقهِ وكرمه وصدقه وشجاعته ، جميع من كانوا في مُحيطهِ تألموا وبكوا وأغلبهم أصدقائه الذين لم يُفارقهم طيفهُ أبداً ، لازالت بسمتهُ تجوبُ في جدران حارتنا ، لازالت سيارتهُ تمشي من أمامنا ، لازال صوتهُ عالقٌ في أذاننا كان دوماً أمام أعيننا نراه يطوف في تلك الأرجاء ولم نتوقع يوماً أنهُ سيرحل بسرعة البرق وهدوء المطر لم نعلم ياأحمد أنك ستغادر دون وداعنا .

رأيت موكبهُ المهيب سلام الله عليه من نافذة منزلنا وصوت المكبر يعلو شيئاً فشيئا بـ”ودعيني يادياري ودعيني ” ويكأن دارهُ الفيسح رد عليه وهو مكسوٌّ بالدموعِ ودعتُك ودعتُك ياشهيد.

استقبلته أمهُ قائلة: وداعاً يابسمة قلبي وداعاً يافلذة كبدي وداعاً ياوسامي وفخري واعتزازي أزُفك ياولدي بمزيجٍ من مشاعرِ الفخرِ والاعتزاز وأودعك كما ودّعت زينب الكْبرى أخاها الحُسين وأقول: ياربُّ إن كان هذا يُرضيكَ فخُذ حتّى ترضى وأوصيك أن تُبلّغ سلامي لأخيكَ الشّهيد مُحمد ولرسولِ الله ولجدكَ الإمام علي ولفاطمة والحسن والحسين وأوصيك ياولدي أن تشكي لرسول الله ظلم قوماً جدّدوا فينا كربلاء وسفكوا دماءً طاهرة كُلّ ذنبها أنها أتخذت نهجك ونهج آل بيتك مساراً لها.

أي سموٍ أي شجاعة أي شموخٍ أي صبرٍ؟ تملّك هذهِ الأم الفخورة في تلك اللحظات سلامٌ وألف سلام لكِ أيتها العظيمة.

رحل أحمد مؤكداً أنِّ كُلّ نفسٍ ذائقة الشّهادة بعد الجهاد إن نوت ، وبقيت والدته مؤكدةً أنَّ فراق الشّهيد من بعده لقاء أبدي وإن طال.