الخبر وما وراء الخبر

كيف ستقرأ “إسرائيل” مشهد “الانتحار السعودي” في جيزان؟

24

بقلم/ علي ظافر

لم تكن العمليّة الأخيرة للقوات المسلَّحة في جبهة جيزان عادية أو عابرة، بل شكّلت انكشافاً استراتيجياً واضحاً وفاضحاً للنظام السعودي الّذي وجد نفسه، بعد انفراط عقد التحالف، وحيداً في مأزق استراتيجي وتاريخي كبير، ذلك أنه دخل بغرور مراهناً على معادلة المال والسلاح وتجييش الدول والمرتزقة، بدفع من التحالف الإمبريالي الأميركي الإسرائيلي، لحماية مصالحهم واحتواء مخاوفهم من حرب غير محسوبة العواقب والنتائج.

لقد ارتكب النظام السعودي خطأً استراتيجياً كبيراً، أولاً حين استجاب لطلب واشنطن بشنّ العدوان على اليمن، وحمل على عاتقه دوراً يفوق حجمه في الميزان الإقليمي، ويفوق قدراته وفقاً لنظرية الدور في العلاقات الدولية، وثانياً حين توهم أنه سيقطف ثمار الحرب لمصلحته في غضون أسابيع، من دون الاستفادة من قراءة تاريخ الغزاة وتجاربهم في اليمن، “مقبرة الغزاة”، وثالثاً حين راهن على طول أمد الحرب وإضعاف الخصم، أملاً في هزيمة اليمنيين وسحقهم، ليكتشف أن رياح سنوات الحرب السبع جاءت بما لا تشتهيه سفن الرياض وواشنطن وتل أبيب، إذ مثَّلت الحرب عامل قوة لليمنيين الّذين تمكَّنوا من نقل المعركة بالصواريخ والمسيّرات إلى العمق السعودي والإماراتي، وربما لاحقاً إلى عمق العدو الإسرائيلي داخل فلسطين المحتلة، فضلاً عن توسع القوة الصاعدة في اليمن شعبياً وسياسياً، وعلى كل المستويات، وتحوّل اليمن إلى قوة إقليمية شكَّلت إضافة نوعية لمحور المقاومة المناهض للمشاريع الأميركية الإسرائيلية في المنطقة.

لم يكن في تقديرات النظام السعودي وحساباته، ومعه الأميركي والإسرائيلي، أنَّ اليمن سيكبر بهذا الشكل، رغم قسوة الحرب على الصعيد الإنساني، لكنّهم اليوم باتوا أمام الحقيقة التي كانوا يخشونها، رغم الحرب والحصار ومساعي التقزيم والتحجيم، بل الأخطر من منظور التحالف الإمبريالي هو امتلاك اليمن تقنية التصنيع العسكري في خطوط إنتاج متعدّدة لأنواع كثيرة من الصواريخ الدقيقة والباليستية والطائرات المسيّرة. والأكثر من ذلك أنَّ العمق السّعودي بات على موعد مع جرعات، إما يومية وإما أسبوعية، من الصواريخ والمسيَّرات، وأصبحت جغرافية المملكة مكشوفة استراتيجياً أمام نيران اليمن، في ظلّ عجز أنظمة الدفاع من “الباتريوت” وغيرها.

لا شكَّ في أنّ التحوّل النوعي في اليمن يقلق “إسرائيل” التي باتت تخشى، كما جاء على لسان نتنياهو، “ضربة محتملة ومفاجئة منه”، بل بات الإسرائيليّ يعترف بقدرته على ذلك، ويصف اليمنيين بأنَّ “أصابعهم خفيفة على الزناد”. وأكثر ما يقلق “إسرائيل” هو امتلاك حزب الله وبقية حركات المقاومة أسلحة استراتيجيّة كتلك التي يملكها اليمن.

ثمة عامل قوّة يتمثّل بعقيدة المقاتل اليمني وقدرته على تحقيق اختراقات نوعيّة في الحدود الجنوبية للسعودية، وسط عجز الجيش السعودي والمرتزقة من مختلف الجنسيّات عن حماية تلك الحدود المفتوحة مع اليمن، رغم اختلال ميزان تكافؤ القوّة بالمعايير المادية عسكرياً، إلا أنَّ المقاتل اليمنيّ، بما تيسَّر له من سلاح تكتيكي، استطاع خلال سنوات الحرب أن يمرغ أنوف أكبر الدول النفطية وثالث أكبر دولة من حيث الإنفاق العسكري في وحل اليمن والهزيمة.

أظهرت عملية جيزان الأخيرة هشاشة تلك الدولة، وكشفت عن جيش كرتوني يفتقر إلى العقيدة القتالية، وأثبتت أنَّ المال وشراء الذمم والتجييش والتفوق في نوعية السلاح والطيران لا يصنع نصراً ولا يحسم معركة؛ فعلى الرغم من أنّ المواقع السعودية في جيزان محصَّنة ومجهَّزة بأحدث الأسلحة العسكرية، ومحاطة بالكاميرات الحرارية وجميع وسائل المراقبة، وطائراتها المتطورة بأنواعها لا تغادر سماء المنطقة، وغاراتها لا تتوقف، فقد فشلت وسقطت أمام جيش من “الحفاة” الذين تمكَّنوا من استطلاع المواقع السعودية من مسافة قريبة، إلى درجة أن فريق الاستطلاع كان يرى ملامح المقاتلين السعوديين والمرتزقة، بحسب مصادر ميدانية أكّدت أن طلائع المقاتلين اليمنيين تقدموا بأسلحتهم الشخصية وببضع “ولاعات”، وتمكَّنوا في ظرف قياسي من إسقاط قرابة 40 موقعاً في محيط مدينة الخوبة التابعة لجيزان، ضمن رقعة جغرافية تقدر بـ150 كيلومتراً مربعاً، وإحراق وتدمير قرابة 60 آلية ومدرعة أميركية، بعضها أحرق بـ”الولاعة” عوضاً عن “الكورنيت” المضاد للدروع، كما لقي 200 شخص بين ضابط وجندي مصرعهم، وأُسر العشرات، فيما لجأ بعض المقاتلين السعوديين والسودانيين واليمنيين أثناء هروبهم اللاواعي إلى الانتحار برمي أنفسهم من قمم جبال جيزان، في مشهد غير معهود، وربما غير مسبوق، في تاريخ الحروب الحديثة.

لقد شكَّلت عملية جيزان إضافةً نوعيةً إلى قائمة العمليات البرية الواسعة، بدءاً من عملية “نصر من الله” في جبهة نجران، إلى عملية “البنيان المرصوص” في جبهة نهم، والتي نقلت التهديد من البوابة الشرقية للعاصمة صنعاء إلى أبواب مآرب، وصولاً إلى عملية “فأمكن منهم” التي تحررت بموجبها محافظة الجوف الغنية بمخزون كبير من النفط.

وبقدر ما شكَّلت هذه العملية إضافة نوعية، فقد كشفت عن حرفية وخبرة عالية لدى الجيش واللجان الشعبية اليمنية في التكتيك والتخطيط والتنفيذ وتجاوز الموانع وقهر التقنيات الرقابية المتطورة، كما أظهرت روحاً معنوية عالية، إذ كان مصور الإعلام الحربي يردد ساخراً عند كل غارة للطيران السعودي: “بلاستيك يا سعودي بلاستيك”، ولم يهتزّ له رمش أو تهتزّ له كاميرا، بخلاف المقاتل السعودي الذي اندفع نحو الانتحار أمام أسلحة خفيفة في أيدي مقاتلين من العيار الثقيل.

لقد نجح المقاتل اليمني بإحراز إنجاز واضح في عملية جيزان عسكرياً وإعلامياً. في المقابل، لم يجد السعودي، من هول الصدمة والحرج، إلا أن يصفها بـ”المفبركة”، كما جاء على لسان المتحدث العسكري باسم وزارة الدفاع السعودي تركي المالكي.

من الناحية الاستراتيجيَّة، في ظلّ انسداد أفق الحرب ومكابرة النظام السعودي في تقبّل الهزيمة ودفع ثمن المغامرة في اليمن، نسأل: ما حجم الانتصار الَّذي سيحقّقه اليمن في حال استمرَّت مكابرة السعودية بعد 7 سنوات من الفشل؟

هنا، أستحضر مقولة مهمّة للخبير الاستراتيجي الراحل أنيس النقاش الذي وصف الحرب على اليمن بأنها “حرب وجودية على مستقبل بقاء بني سعود في المنطقة، ومقدّمة، ليس لهزيمة جيشهم فحسب، بل لتغيير خرائط الجزيرة العربية أيضاً، وبالتالي هزيمة مشروع إمبريالي أميركي صهيوني كبير أداته السعودية ومرتزقتها”.

ولأنَّ الشيء بالشيء يُذكر، نختم بسؤال أيضاً: كيف ستقرأ “إسرائيل” هذا التطوّر؟ وكيف ستقرأ انتحار الجيش السعودي أمام المقاتلين اليمنيين، بعد أن أعلنت صنعاء استعدادها أكثر من مرة لإرسال مئات الآلاف من المقاتلين لمؤازرة حركات المقاومة في فلسطين ولبنان في أي حرب مقبلة – رغم أنه لا ينقص المقاومة مقاتلون أولو بأس شديد كاليمنيين – لكن كيف سيكون مصير الصهاينة إذا اجتمع بأس أهل اليمن مع بأس أهل بلاد الشام وغيرهم من الأحرار في معركة “وعد الآخرة”؟