الخبر وما وراء الخبر

نص المحاضرة الرمضانية الثانية للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 02 رمضان 1442هـ

88

أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.

أيُّها الإخوة الأعزاء

السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

وتقبَّل الله منا ومنكم الصيام، والقيام، وصالح الأعمال.

اللهم اهدنا، وتقبل منا، إنك أنت السميع العليم، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.

نواصل الحديث على ضوء الآية المباركة فيما يتعلق بالتقوى وعلاقتها بالصيام، ونأتي إلى موضوعٍ مهم، له علاقة أساسية بالصيام، وعلاقة أساسية بالتقوى، الله “سبحانه وتعالى” قال في كتابه الكريم عن شهره المبارك (شهر رمضان): {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}[البقرة: من الآية185]، شهر رمضان المبارك فيه أنزل الله كتابه العظيم: القرآن الكريم، في ليلة القدر منه ابتدأ نزول القرآن الكريم.

القرآن الكريم هو نعمة الله العظيمة على عباده، هو هديه، هو نوره لعباده، ونزوله في شهر رمضان المبارك، ثم أن يفرض الله “سبحانه وتعالى” صيام هذا الشهر، وأن يجعل هذا الشهر محطةً تربويةً عظيمةً، ومحطةً للتزود بالتقوى، ومحطةً للتزود بالهداية، يدل على عظم هذه النعمة العظيمة، أنها نعمةٌ عظيمة، ولذلك كان شهر نزولها شهراً مباركاً، عظيم البركات، وواسع الخيرات، ومناسبةً مقدَّسة، وكذلك يدل على عظمة القرآن كذلك، أن يكون الوقت الذي ينزل فيه له خصوصية عن بقية الأوقات، سواءً على مستوى الليلة التي ابتدأ نزوله فيها، وهي ليلة القدر، أو على مستوى الشهر الذي هذه الليلة هي ليلةٌ منه، وهو شهر رمضان المبارك.

تبين لنا في حديث الأمس العلاقة ما بين الصيام في شهر رمضان والتقوى عند من يستشعر هذه العلاقة، يستوعبها ويدركها جيداً، ويسعى إلى تحقيقها، ويستشعر التجلد والصبر، ويكتسب قوة العزم والإرادة، فيصبح عنده الدافع القوي، والإرادة القوية، والعزم القوي، للعمل بما فيه وقاية له من العذاب، من الشقاء، من الخزي، من الهوان، من الخسران الكبير، والخسران المبين.

وهنا نأتي إلى جانبٍ أساسيٍّ لتحقيق التقوى، إذا كنا سنكتسب من الصيام ومن خلال استشعارنا لذلك، لهذه النقطة: لما هو عطاءٌ مهمٌ من عطائه، نكتسب منه قوة الإرادة، وقوة العزم، نروِّض أنفسنا على الصبر وعلى التحمل، نضبط غرائزنا، نسيطر على رغباتنا وأهوائنا وشهواتنا، فنحن حتى تتحقق لنا التقوى بحاجة إلى الهداية الإلهية، إلى ما الذي نعمله، ما الذي نلتزم به، ما الذي نتركه، ما الذي نحتاج إليه من الوعي، والبصيرة، والمفاهيم المهمة، والأسس، التي نبني عليها مسيرة حياتنا، فيما نعمل، وفيما نترك، في مواقفنا، في التزاماتنا العملية، هذه مسألة أساسية؛ لأنه لا يكفينا أن نكتسب قوة العزم والإرادة والصبر والتجلد والتحمل، ثم نتحرك مثلاً بطريقةٍ خاطئة، أو نوظِّف قوة عزمنا، ونسخِّر طاقتنا وقدرتنا وصبرنا وتحملنا في فعل ما هو خطأ، في تصرفٍ خاطئ، هنا لن تتحقق لنا الوقاية، لا بدَّ من أن نهتدي بالطريقة الصحيحة، للعمل الصحيح، للموقف الصحيح، الذي تتحقق لنا به تلك الغايات الكبرى التي وعد الله بها عباده المتقين.

هناك وعود وعد الله بها عباده المتقين، فيها:

أنهم سيقون أنفسهم بما سلكوه من أسباب التقوى، فيما عملوه مما يحقق التقوى، بما التزموا به فيما فعلوا وفيما تركوا مما يحقق التقوى، يقون أنفسهم بذلك من عذاب الله، من جهنم، من المصير الأبدي المخزي المهين، الذي هو أكبر خسران.
أنهم سيقون أنفسهم في هذه الدنيا من الذلة والهوان.
أنهم سيحظون في هذه الحياة برعايةٍ من الله “سبحانه وتعالى”، ومن عزته، ومن تأييده، ومن نصره، ومن توفيقه، ومن ألطافه.
وأنه سيحيطهم برحمته الواسعة.
أنه ستتحقق لهم الكثير من المكاسب المهمة في أنفسهم، فيما يَسمُون به فيما تتحقق لهم من كمالاتٍ إنسانية، وأيضاً على مستوى واقع حياتهم في شؤون حياتهم.
فلتحقيق التقوى لا بدَّ من الهداية الإلهية، من البرنامج العملي الذي نتحرك فيه بشكلٍ صحيح، من الهداية إلى الأعمال التي تتحقق بها تلك النتائج العظيمة التي نرجوها لأنفسنا، فنزول القرآن الكريم، ووظيفته الأساسية، ودوره الأساسي الذي أراده الله لعباده في علاقتهم منه، هو الهداية، فقال “جلَّ شأنه”: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}.

فعندما نتأمل في هذه الآية المباركة، وندرك علاقة الصيام والقرآن في تحقيق التقوى، ندرك أننا نسعى لأن نمتلك العزم، وقوة الإرادة، والصبر، والتجلد، والسيطرة على شهواتنا ورغباتنا وأهوائنا، من أجل أن نتَّبع هذا القرآن، من أجل أن نهتدي به، من أجل أن ننفِّذ ما فيه من أوامر الله “سبحانه وتعالى”، من أجل أن ننتهي عما نهانا الله فيه، ونستفيد من الصيام فيما يتعلق بتزكية النفس، وصفاء النفس، الصفاء النفسي والوجداني، ونقاء المشاعر، الذي يساعدنا على الاستقبال لهذا الهدى، والاستيعاب له، والفهم له بشكلٍ أفضل.

الصيام من حيث هو قربة إلى الله “سبحانه وتعالى” لمن يستشعر هذه القربة، ويتقدم في أعماله بكلها إلى الله “سبحانه وتعالى”، وينوي بذلك القربة إلى الله “جلَّ شأنه”، ومن حيث بركة هذه الصيام كقربة، عندما تمارسه كقربة، بركته وأثره النفسي والوجداني في تصفية المشاعر والنفسية، في تخليص الإنسان من كثيرٍ من الكدر، حتى عملية الامتناع عن الشهوات والرغبات في الصيام، والسيطرة على النفس في ذلك، والشعور بأنَّ هذا من أجل الله “سبحانه وتعالى”، وابتغاء مرضاته، له أثر في الجانب الروحي للإنسان، يستشعر القرب من الله “سبحانه وتعالى” أكثر، هذا له أثر في تهيئة الإنسان لحسن استقبال القرآن الكريم، هدايته المباركة، مفاهيمه العظيمة، نوره المبارك.

عندما نعود إلى الآية المباركة لندرك أهمية هذه النعمة العظيمة، التي هي نعمة القرآن الكريم ككتاب هداية، وكيف يجب أن تكون علاقتنا من واقع حياتنا به.

الله “جلَّ شأنه” قال: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}، مما ينبغي أن نستذكره، وأن نستحضره دائماً: هو أنَّ هذا القرآن هو كتاب الله، ومن الله “سبحانه وتعالى”، هو كلماته هو، آياته “جلَّ شأنه”، من نوره، لم يوكل عملية تأليف هذا الكتاب وإنشاء هذا الكتاب إلى أحدٍ من خلقه، لا من ملائكته المقربين، ولا من أنبيائه المرسلين، فليس نتاجاً لمخلوقٍ من مخلوقات الله في أي مستوى من المستويات، لا، هو من الله “جلَّ شأنه”، وهذا يدلنا على أهمية هذا الكتاب العظيم، على عظمته؛ لأنه من الله “سبحانه وتعالى”، أنزله إلينا هدايةً لنا، وهو من علمه، برحمته، ومن منطلق رحمته بنا، هو “جلَّ شأنه” قال عنه: {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}[فصلت: الآية2]، فكلما في هذا الكتاب من هداية، من توجيهات، من أوامر، هو من منطلق رحمة الله بنا، ليس فيه شيءٌ من هدايته أو ما فيه من الأوامر والتوجيهات خارجٌ عن إطار رحمة الله “سبحانه وتعالى”، ونحن في أمسِّ الحاجة إلى رحمة الله “سبحانه وتعالى”، ولكن نحصل على هذه الرحمة، نصل إلى هذه الرحمة، تتحقق لنا هذه الرحمة، نتلمس آثار هذه الرحمة في واقع حياتنا، من خلال اهتدائنا بهذا الكتاب، من خلال اتِّباعنا لهذا الكتاب، من خلال تمسكنا بهذا الكتاب، وهذه هي المشكلة التي نعاني منها حتى في واقعنا كأمةٍ مسلمة: النقص الكبير في اتِّباع القرآن الكريم، والنقص الكبير في الاهتداء به، ترك في واقع حياتنا ثغراتٍ كبيرة، وآثار كبيرة، ونقص كبير، وابتعاد كبير عن أسباب رحمة الله “سبحانه وتعالى”، فكان لذلك آثار سيئة في واقع حياتنا، ونحن كأمةٍ إسلامية من نجني على أنفسنا عندما نترك شيئاً من القرآن، عندما لا نهتدي بالقرآن في أشياء مهمة جداً في شؤون حياتنا، وفي مجالات ذات أهمية كبيرة في حياتنا، نخسر من رحمة الله “سبحانه وتعالى”، الرحمة التي تتجسد بتلك التوجيهات الرحيمة، والرحمة التي تأتي إضافةً إلى ذلك من خلال الرعاية الإلهية الواسعة، التي تأتي نتيجةً لاتِّباع كتاب الله، والاستجابة له “سبحانه وتعالى”.

فعندما ندرك أنَّ هذا الكتاب كلما فيه هو رحمة؛ تتغير نظرتنا إلى تشريعات الله “سبحانه وتعالى”، إلى توجيهاته، وبالذات في الأمور التي ننظر إليها نظرةً سلبية، نعتبرها تشكِّل خطورةً علينا، أو نعتبرها ذات مشقة كبيرة في واقع حياتنا، فنتهرب عن الالتزام بها، أو القيام بها، أو النهوض بها نتيجةً لهذه النظرة الخاطئة، هذا مما يجب أن نصحح من خلاله نظرتنا إلى القرآن الكريم، وبشكلٍ كامل، فكلما فيه من أوامر وتوجيهات، وكلما فيه من هداية، هو خيرٌ لنا، ومن منطلق رحمة الله بنا، وهو أرحم الراحمين، هو أرحم الراحمين، والثمرة التي تتحقق لنا من خلال التمسك بكتاب الله، والاهتداء به، والاستبصار به، ثمرة مهمة لنا نحن: رحمةٌ في الدنيا، ورحمةٌ في الآخرة، رحمةٌ في الدنيا: التمسك بهدى الله “سبحانه وتعالى” والاهتداء به يتحقق لنا به كأمة، الخير، والعزة، والكرامة، والحرية بمفهومها الصحيح، العزة بمفهومها الصحيح، الاستقلال، الخير، البركات، الرعاية الإلهية الواسعة في شؤون حياتنا، القوة، المنعة، الغلبة في مواجهة أعدائنا، كم وعد الله “سبحانه وتعالى”، الرحمة دائرتها واسعة، تمتد إلى كل مجالٍ من مجالات حياتنا، وإلى كل شأنٍ من شؤون حياتنا.

القرآن الكريم أيضاً هو كتاب الله الحكيم، وكلما فيه يتصل بأسمائه الحسنى كافة، كل أسماء الله الحسنى نرى ما يشهد لها، وما هو نتاجٌ لها ومرتبطٌ بها في القرآن الكريم، والله هو أحكم الحاكمين، “سبحانه وتعالى” هو مصدر الحكمة، {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ}[البقرة: من الآية269]، فكلما في القرآن الكريم من هداية، من توجيهات، من أوامر، كلما يقدمه لنا من التزامات عملية، هو من حكمته “سبحانه وتعالى”، ولذلك لا يمكن أن ننظر إلى أي رؤية، أو فكرة، أو مقترحات، أو تنظيرات، أو تصورات، أو مفاهيم، مقدَّمة من عند أي أحد، تخالف القرآن الكريم في أي مجال من مجالات الحياة، على أنها حكمة، أبداً، كلما يأتي وهو مخالفٌ للقرآن الكريم ليس بحكمة، الحكمة نجدها في القرآن الكريم، وأيضاً هذه ممن المشاكل الكبيرة في الساحة الإسلامية: أنهم يتجهون ابتداءً في مجالات كثيرة من شؤون حياتهم إلى إنتاج بدائل عن القرآن الكريم، وعمَّا يقدِّمه القرآن الكريم.

فعندما نأتي إلى الشؤون السياسية، والتي تتصل بمجالات حياة الناس، بتنظيم شؤون حياتهم، يبحثون عن بدائل، إما من خارج الساحة الإسلامية بكلها، بدائل من عند الكافرين بالقرآن، ممن لا يؤمنون بالقرآن، ممن لا يؤمنون بالله ورسله وأنبيائه، فيأتي البعض ليبحث ماذا قدَّموا من آراء، من أفكار، من تصورات، من مفاهيم تتعلق بالجوانب السياسية لحياة الناس، ثم يرى ذلك أنه هو الأجدر بالإتِّباع، والأنسب للحياة، والأكثر واقعيةً لحياة الناس، وأنه الأفضل، الذي يجب الالتزام به، فتأتي شخصيات تتبنى ذلك، أحزاب تتبنى ذلك، تيارات، اتجاهات تتبنى ذلك، وبإعجاب وانبهار أحياناً، انبهار بما هو من عند الآخرين، مما أنتجه الآخرون من أفكارهم القاصرة، وما قدَّموه من تصورات خاطئة، نتيجةً للإعجاب به، ونتيجةً للانبهار به يقدَّم في الساحة الإسلامية وتتحرك لفرضه أحياناً، أو للترويج له في أحيان أخرى، حركات، أحزاب، توجهات، ويأتي من يتعصب له بشدة، ويأتي من يسعى إلى إقناع الآخرين به بكل إعجابٍ واغترار، وهذه مشكلة جلبت لنا الكثير من المشاكل في ساحتنا الإسلامية، وساهمت في الإعراض عن القرآن الكريم.

على المستوى الاقتصادي مثلاً، تأتي- كذلك- الكثير من الرؤى والمفاهيم من خارج الساحة الإسلامية، والتنظيرات والأفكار من خارج الساحة الإسلامية، وفيها ما يتعلق بكثيرٍ من الأمور في المسألة الاقتصادية، السياسات الاقتصادية، النظم الاقتصادية، الخطط الاقتصادية، ثم تأتي المصائب والكوارث الكبيرة علينا في الساحة الإسلامية نتيجةً لذلك، تصبح تلك التنظيرات الاقتصادية، والسياسات الاقتصادية، والنظم الاقتصادية، هي السائدة في حياتنا في الساحة الإسلامية، والتي تبنى عليها حياتنا، تبنى عليها حياتنا في واقعنا الاقتصادي، في المجال الاقتصادي.

أكثر من ذلك: تمتد هذه المسألة إلى الجوانب الاجتماعية، إلى جوانب كثيرة في شؤون حياتنا، حتى تصبح مسألة التبعية لأعدائنا، والتبعية للكافرين بديننا، والكافرين بكتاب الله، والكافرين بالله ورسله وأنبيائه، تصبح مسألة التبعية لهم، التأثر بهم، التقليد لهم، ممتدة في كل شؤون حياة الناس، يصبح ما يأتينا من جانبهم حتى على مستوى الأزياء، على مستوى الملابس، على مستوى الشكليات، حتى في الأشياء الشكليات، من الأساسيات إلى الشكليات، تصبح مسألة التبعية لهم، والتأثر بهم، والإعجاب بما هم عليه، وما يأتي من عندهم، تصبح هي السائدة لدى الكثير من الناس، وتصبح هي الموضة، وتصبح- بنظر الكثير من الناس- هي ما يعبِّر عن الحضارة والرقي، وما ينبهر به الكثير من الناس، هذه مشكلة كبيرة علينا في ساحتنا الإسلامية.

ولذلك يجب أن نعي وأن ندرك ماذا تعنيه هذه المفاهيم المهمة: مفهوم أنَّ القرآن الكريم هو كتاب الله الحكيم، وكلما فيه هو الحكمة، ما يرشدنا إليه هو الحكمة، يعني: لا أصوب منه، ليس هناك رؤية أرقى ولا أسمى ولا أكثر حكمةً مما يقدِّمه الله لنا في القرآن الكريم، وأنَّ هذه الحكمة لا تختص بمجال في حياتنا دون سائر المجالات، الحكمة في المجال السياسي، الحكمة في المجال الاقتصادي، الحكمة في نظم أمورنا الاجتماعية، الحكمة في كل مسيرة حياتنا، في كل مجالاتها وشؤونها، ولذلك يجب ألَّا ننبهر بأي شيءٍ يخالف القرآن، ألَّا ننظر إليه نظرة الاغترار به، ولذلك الله “سبحانه وتعالى” قال عن القرآن الكريم: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}[الزمر: الآية1]، ووصفه بأنه القرآن الحكيم، وصفه بالحكمة كثيراً، وصف الحكمة أتى كثيراً في القرآن الكريم.

القرآن الكريم هو تنزيل الله “سبحانه وتعالى”، تنزيل ربنا، الملك، رب العالمين، ملك السماوات والأرض، قال “جلَّ شأنه”: {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، تنزيل من الله العزيز العليم، {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}[غافر: الآية2]، {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}[فصلت: الآية2]، قال “جلَّ شأنه”: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر: الآية9]، أي كتابٍ، وأي اطروحات، أو رؤى، أو أفكار، تقدم إلى الناس، يمكن أن تكون في مستوى كتاب الله، الذي أنزله “سبحانه وتعالى” عالم الغيب والشهادة، الذي يعلم السر في السماوات والأرض، الذي هو العليم بمصالح عباده، {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[الملك: الآية14]، العليم بنفوسهم، بأمورهم، باحتياجاتهم، بما هو الأصلح لهم، بما هو الخير لهم، بما فيه صلاح حياتهم في كل مجالاتها، هو “جلَّ شأنه” العليم.

وهو الملك، نحن ملزمون باتباع كتابه، هو دستوره لعباده، هو دستوره لعباده، وأنزله ليتبع، أنزله حجةً على عباده ليتبع، أنزله، وإنزاله له إلى عباده جزءٌ من تدبيره الواسع لشؤون مملكته الكونية الكبرى، ولذلك قال “جلَّ شأنه”: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ}[الإسراء: من الآية105].

إذا كنا قد ننظر إلى ما يأتينا من البعض إلى أنه من أشخاص مشهورة بمنزلتها العلمية، أو مكانتها العلمية، أو مشهورة بأنها تمتلك الرؤى والتصورات الحكيمة، أو مشهورة أنها ذات تخصص ومعرفة واسعة في مجال من المجالات، فهذا لا يقارن أبداً بالنسبة إلى علم الله، وحكمته، ورحمته، هذا شيء لا يقارن أبداً، ليس هناك أي مقارنة، فلا يساوي شيئاً ما يقدم من الناس، مهما كانت مكانتهم العلمية، مهما كانت تخصصاتهم، عندما يأتي منظر في المجال الساسي، أو يطلق عليه خبير في المجال السياسي، أو خبير في المجال الاقتصادي، فما يقدمه وكان مخالفاً للقرآن فلا يساوي شيئاً، ليس له أي قيمة نهائياً، لا شك في أنه خطأ، لا شك في أنه لا يصلح لحياة الناس أصلاً.

الله قال عن القرآن الكريم: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ}، أنزله بالحق، مقتضى ملكه لعباده، قيامه بأمر عباده، بأمر مملكته، بشؤون خلقه، يقتضي أن يقدم لهم منهجاً ونظاماً لحياتهم، لمسيرة حياتهم، لشؤون حياتهم، تعليمات واضحة، منهج واضح.

{وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}[الأنعام: الآية155]، كتاب أنزله الله لكي نتبعه، نتبعه وتكون كلما لدينا من الثقافات، من المفاهيم، من الأفكار، على أساسه، ومن هديه، ثم تكون منطلقاتنا العملية على أساسه.

{فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا}، اتقوا في اتباعه، لا تفرطوا في اتباعه، لا تقصروا في اتباعه، لا تنحرفوا عن اتباعه.

{لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}: هكذا يعلمنا الله أن نبني أساس حياتنا، مسيرة حياتنا، في أعمالنا، في شؤوننا، في نظامنا، في التزاماتنا العملية، في أفكارنا، في منطلقاتنا العملية، على أساس الاتباع لكتابه المبارك.

يقول “جلَّ شأنه”: {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}[فصلت: من الآية42]، فكلما في القرآن حكمة، وكلما فيه كذلك ينسجم مع مكارم الأخلاق، ليس فيه ما إن اتبعته يمكن أن تكون غبياً، أو يمكن أن يشوهك، أو أن يمس بك في كرامتك الإنسانية، في أخلاقك، في قيمك، لا، كلما فيه عظيم، يسمو بك، تشرف به.

{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}[الإسراء: من الآية9]، وهدايته هداية واسعة في كل مجال من مجالات الحياة، وهداية راقية وعظيمة، {لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}، فهو يهدينا في المجال السياسي إلى أقوم ما تستقيم به الحياة في مجالها السياسي، يهدينا في المجال الاقتصادي إلى أقوم وأرقى وأسمى وأعظم ما تستقيم به حياتنا في المجال الاقتصادي، في الشأن الاجتماعي في كل التفاصيل ذات الصلة بالشأن الاجتماعي: في شؤون الأسرة، في شؤون المجتمع، في علاقات المجتمع، في قضايا المجتمع، المشاكل الاجتماعية، يهدينا إلى ما هو أقوم ما تستقيم به حياتنا في مجالها الاجتماعي، وهكذا في بقية المجالات.

فليس هناك ما يمكن أن يكون بديلاً عنه فيهدي إلى ما هو أفضل، وليس فقط إلى مستوى أنه ينافس ما لدى الآخرين، ولكنه دائماً يقدم الأرقى، الأقوم، الأفضل، الأحسن.

{وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا}[الشورى: من الآية52]، لا يمكن أن تنال هداية الله إذا لم تكن مرتبطاً بكتابه، مهتدياً بكتابه، هو يهديك، هو يتدخل في هداية عباده، لكن هذه الهداية تأتي مع التمسك بكتابه.

{يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ}[المائدة: من الآية16]، السلام من الضلال، السلام من الشقاء، السلام من الخزي، السلام من النار، السلام من عذاب الله في الدنيا والآخرة، السلام من الهوان، السلام من كلما نحن مفطورون على أن نبتغي لأنفسنا السلام منه، ولهذا نجد أنه لا مبرر لنا في المقدمة كمسلمين في أن نبحث- وبشكل عجيب يعني في الساحة الإسلامية- عن بدائل من خارج القرآن في كل مجالات الحياة.

معظم من يهتمون بالشأن السياسي ينطلقون من منطلقات بعيدة عن القرآن، ومفاهيم بعيدة عن القرآن، معظم من لديهم اهتمام بالشؤون الاقتصادية يتجهون بعيداً عن القرآن، الشؤون الاجتماعية، حالة من الابتعاد والإعراض حالة خطيرة جداً في الساحة الإسلامية.

يقول الله “سبحانه وتعالى”: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}[إبراهيم: الآية1]، النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” أنزل الله إليه القرآن ليتحرك به عملياً، لإخراج الناس، وفق هذا القرآن، مفاهيمه، نوره، هديه، {مِنَ الظُّلُمَاتِ}؛ لأن الناس في ظلمات، ظلمات الجهل، ظلمات العمى، ظلمات الأفكار الظلامية، المفاهيم الظلامية، التصورات الظلامية، العقائد الظلامية، التي تحجب الناس عن معرفة الحق كما هو، بنقائه وصفائه، الحق كاملاً، ظلمات تحجب الناس عن إدراك الحقائق، عن إدراك ما هو خيرٌ لهم بالفعل، هذه الظلمات يكشفها القرآن الكريم، {إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}.

فالقرآن الكريم، وهو كتاب الله، بعلمه، وحكمته، ورحمته، وهدايته الواسعة الشاملة في كل مجالات الحياة، لا يوجد مبرر للإنسان بأن يعرض عنه، بأن يبتعد عنه في مسيرة حياته، لا كفرد، ولا كمجتمع، ولا كأمه، والإعراض عنه والانطلاقة على أساس بدائل أخرى لها نتائج خطيرة جداً على الإنسان، وزر كبير، وذنب عظيم.

قال الله “جلَّ شأنه”: {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا}[طه: من الآية99]، يخاطب نبيه محمداً “صلى الله وسلم عليه وعلى آله”، {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا} القرآن الكريم، {مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا}[طه: 100-101]، من أعرض عنه فهو سيتحمل التبعات الكبيرة لإعراضه، ما هو الإعراض عن القرآن الكريم؟ هو الإعراض عن الاهتداء به والاتباع له، هذا هو الإعراض، لا يكفي أن نتلوه، لا يكفي أن نقتنيه في المنازل، لا يكفينا الإقرار فقط بأنه من عند الله، ثم لا نتبع ولا نهتدي، يجب أن نعود إلى الاهتداء به، أن يكون عندنا اهتمام، حرص، سعي للاهتداء به، وسعي للالتزام به، سعي للعمل به، للاتباع له، وإلا فالحالة هي حالة إعراض، وهي حالة خطيرة جداً.

{مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ}: أياً كان هذا المعرض، بأي صفة، بأي دور، بأي اسم، {فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا}، نعوذ بالله! ذنباً عظيماً وفظيعاً يخلده في جهنم! {خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا}، سيكون حملاً سيئاً، حملاً يكفي بأن يصل بالإنسان إلى قعر جهنم، حملاً ثقيلاً، يبعد الإنسان عن رحمة الله “سبحانه وتعالى”، فلا ينال ذرةً من رحمة الله “جلَّ شأنه”، هذا أمر خطير جداً جداً، كافٍ لنا جميعاً في أن نتجه بكل جدية إلى الاهتداء بالقرآن الكريم.

{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى}[طه: 124-126]، فالإعراض له أثر في الدنيا هو الشقاء، الشقاء، وليس فقط الشقاء مثلاً بقلة الإمكانات الاقتصادية، يمكن أن يشقى حتى من لديهم الثروة الهائلة، الإمكانات المادية الهائلة، فلا يرتاحون بها، ولا ينعمون بها، يمكن أن يكونوا في حالة شقاء هم أيضاً، الشقاء حالة واسعة ومتنوعة، ومتنوعة، وأشكالها متنوعة، قد يأتي الشقاء إلى الفقراء المعرضين عن كتاب الله، ويأتي الشقاء إلى الأغنياء المعرضين عن كتاب الله، ويأتي الشقاء عمن لديهم قدرات، أو إمكانات وخبرات، في هذه الحياة، ولكنها اتجهت بهم بعيداً عن هدى الله، فيكونون في حالة شقاء.

أما في الآخرة فهو العمى والخسران المبين، وفوات رضوان الله والجنة، والدخول إلى النار- والعياذ بالله- الخسارة الرهيبة الأبدية الكبيرة، ولذلك نجد خطورة الإعراض عن القرآن الكريم، الإعراض عنه في مقام الاهتداء به، وفي مقام العمل، في مسألة المواقف، في مسألة الاتباع العملي، الآن الكثير من المسلمين لا يفكرون أن تكون مواقفهم، ولاءاتهم، توجهاتهم، مسيرتهم في هذه الحياة، على أساس القرآن الكريم، وفي كل مجالات الحياة، الإنسان بحاجة إلى قرار حاسم، وتوجه صادق، يبني عليه هذه العلاقة مع القرآن الكريم؛ للاهتداء به، والاتباع له، والتمسك به.

نكتفي بهذا المقدار في هذا اليوم، ونكمل- إن شاء الله- في المحاضرة القادمة حديثنا عن القرآن الكريم، وعن العلاقة به إن شاء الله.

نسأل الله “سبحانه وتعالى” أن يوفقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.

والسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛