مأرب بوابة صنعاء لوقف العدوان وإستعادة السلام
قرار صنعاء باستعادة ما تبقى من محافظة مأرب هو قرار مدروس بعناية ويمتلك مقومات النجاح، فـ”صنعاء” الأكثر استعداداً وجهوزية عسكرياً لاستعادة مأرب، لن تقبل هذه المرة بمعارك الكر والفر، ولن تتوقف قواتها إلا على الشريط الحدودي للمحافظة مع السعودية، كما أن توقيت قرار “صنعاء” لا يرتبط بما يعتقده البعض أنه لتحقيق أعلى سقف من المكاسب في إطار استباق عملية استئناف المفاوضات التي لا تبدو قريبة، وتبحث عن أرضية مشتركة جديدة بين الأطراف المعنية تستوعب المُستجدات التي فرضتها “صنعاء”، كما تتطلب خطوات عملية تُترجم جدية النوايا -إن صدقت- من خلال إعلان تحالف العدوان الوقف الفوري لكافة عملياته العسكرية في اليمن، ورفع الحصار الشامل، وفي مقدمة ذلك إعادة فتح مطار صنعاء الدولي وميناء الحديدة تمهيداً لخوض المفاوضات.
مأرب ورقة عسكرية وسياسية واقتصادية رئيسية في معادلة الحرب على اليمن استفاد منها تحالف العدوان وأدواته على مدى 6 سنوات، وبقدر تلك المكاسب غير المشروعة التي تم تحقيقها على حساب دماء ومُعاناة الشعب اليمني العزيز ستكون العواقب والخسائر التي سيتكبدها تحالف العدوان وأدواته عسكرياً وسياسياً واقتصادياً، إذ تمثل استعادة مأرب استرداداً لجزء هام من ثروات الشعب النفطية والغازية ومصدر إمدادات الطاقة الكهربائية التي منع العدوان ومُرتزقته وصولها للكثير من المحافظات وفي مقدمتها العاصمة صنعاء، حيث ظلت عائدات تلك الثروات طوال سنوات العدوان تُستنزف من قبل قيادات حزب الإصلاح وحكومة هادي من خلال تهريب الأموال للخارج، وكانت سبباً للإثراء غير المشروع لكثير من تلك القيادات، فتقرير معهد الإحصاء التركي للعام 2020 على سبيل المثال يُشير إلى أن اليمن احتل المرتبة التاسعة بين الدول الأكثر شراء للعقارات في تركيا بشراء أكثر من 2200 عقار، وتأسيس 164 شركة حتى نهاية العام 2019، إذ نال المسؤولون في حزب الإصلاح الذين يتخذون من تركيا مقراً رئيسياً لإقامتهم الحصة الأكبر في تلك الاستثمارات، ناهيك عن الأموال التي تم تهريبها إلى دول كمصر والأردن وبعض الدول الأوروبية، لذا لا يظن أولئك اللصوص أنهم سيُتركون دون عقاب، بل ستتم مُلاحقتهم ومحاسبتهم، واستعادة ما قاموا بنهبه من أموال.
نظراً لأهميتها الجغرافية والاقتصادية فمأرب هي المعقل العسكري لتحالف العدوان وحكومة هادي وحزب الإصلاح، وهي الأكثر تجهيزاً وتحشيداً للعديد والعتاد، وكانت حتى الأمس القريب بوابة التحالف إلى دخول صنعاء، حيث ظلت قيادات التحالف وأدواته تُردد مقولة “قادمون يا صنعاء”، ولكن هذه المعطيات تغيرت لتكون مأرب اليوم هي بوابة “صنعاء” لوقف العدوان واستعادة السلام لليمن، إذ أصبحت المدينة على مرمى حجر من قوات الجيش واللجان الشعبية التي أطبقت الخناق من جميع الجهات على قوات الإصلاح وهادي المسنودة بمجاميع كبيرة من عناصر تنظيم القاعدة، بالإضافة للدعم العسكري والطيران الحربي والاستطلاعي الذي توفره قوات التحالف.
استعادة مأرب ستفضي إلى وقف العدوان في جانبه العسكري ليتبقى الجانب الاقتصادي مُمثلاً بالحصار الشامل المفروض، وجزء من الجانب السياسي مُمثلاً باستئناف عملية المفاوضات وفق الواقع الجديد، إذ تقود استعادة مأرب تلقائياً إلى استعادة ما تبقى من محافظة تعز بساحلها وصولاً للحديدة، ومن ناحية أخرى سيُفتح الطريق نحو محافظات الجنوب التي يتطلع أبناؤها الشرفاء للتحرر من الهيمنة والوصاية الخارجية، ولتستقر قوات الجيش واللجان جغرافياً على حدود السعودية، وبذلك تكون قد استعادت كافة مناطق الشمال وأخمدت الجبهات العسكرية فيها، وهُنا لن يتبقى لتحالف العدوان من قوات ومرتزقة على الأرض لمساندتهم.
يحرص النظام السعودي على منع تحرير مأرب ليس دفاعاً عن حزب الإصلاح أو حكومة هادي، بل لحساسية التحرير في مثل هذا التوقيت سياسياً، لاسيما وأن المعركة يُرافقها ضربات جوية لقوات الجيش واللجان في العمق الحيوي السعودي، إذ تم استهداف مطاري أبها وجدة، وتُدرك الرياض أن قوات الجيش واللجان سترد بقوة على أي تصعيد أو حماقات عسكرية، ولن تتردد في توجيه ضربات أكثر إيلاماً بالصواريخ الباليستية والطيران المُسير على غرار ضربة أرامكو التي أوقفت نصف إنتاج النفط السعودي، وإمكانية قيام هذه القوات بعمليات عسكرية نوعية في عمق الأراضي السعودية، وهو ما تتجنب الرياض حدوثه في ظل إعلان الرئيس الأمريكي بايدن التوجه نحو إيقاف الحرب في اليمن، ووقف الدعم للعمليات العسكرية للتحالف، بالإضافة لإلغاء إدارته قرار تصنيف مكون أنصار الله كمنظمة إرهابية، وميل واشنطن للاحتفاظ بمسافة أكبر في علاقتها بالرياض لتمارس الابتزاز في الملفات التي ستفتحها؛ كملف خاشقجي وانتهاكات حقوق الإنسان وقانون جاستا، وهي معطيات تُوظفها “صنعاء” وتُسهم في مزيد من الإضعاف للموقف التفاوضي للرياض، كما تزيد من هاجسها الأمني.
سياسياً أيضاً يُمكن اعتبار استعادة مأرب بمثابة المسمار الأخير في نعش ما تسمى “الحكومة الشرعية” التي تنتظرُها معركة فاصلة في الجنوب في إطار تصفية حسابات الصراع والثأر القائمة بين “المجلس الانتقالي” من جهة، وحكومة هادي وحزب الإصلاح من جهة أخرى، وهي معركة يتم فيها إعادة بسط سيطرة “المجلس الانتقالي” الكاملة على محافظة عدن، وتثبيت سيطرته على بعض المحافظات الأخرى كأبين وشبوة، كمقدمة للذهاب بعيداً نحو إعلان الانفصال، ويُدرك حزب الإصلاح أن نهايته لن تختلف كثيراً عن نهاية حكومة هادي، لذا فهو مُستميت في محاولة منع استعادة مأرب (معقله العسكري والاقتصادي، وأهم الأوراق التي تحفظ بقاءه في المشهد السياسي).
وبالمحصلة سيكون على المبعوث الأممي البريطاني غريفيتث وزميله المبعوث الأمريكي الخاص لليمن ليندركينج، إعادة قراءة المشهد العسكري والسياسي في اليمن وفق خارطة المعطيات الجديدة، وهذا ما يُفسر القلق والدعوات البريطانية والأمريكية الأحادية الموجهة إلى “صنعاء” لوقف تقدم قواتها في مأرب.
لا شك أن معركة اليمن ضد الهيمنة والوصاية الخارجية لن تنتهي باستعادة مأرب التي لا تستهدف معركتها سوى أولئك المُرتهنين للوصاية الرافضين لكل دعوات السلام والحوار، الواهمين أنهم فقط من يمتلكون الحقيقة، ولا يؤمنون بالشراكة في وطن يتسع للجميع، لذا فـ”صنعاء” توجه دعواتها لمن تبقى من المغرر بهم في مأرب ممن يُقاتلون في صفوف تلك القيادات التي باركت العدوان على اليمن، وتعمل معه بكل طاقاتها في معركة خاسرة، وتدعوهم ليعودوا إلى صف الوطن مستفيدين من قرار العفو أسوة بالآلاف ممن سبقوهم من زملائهم الذين راجعوا مواقفهم وضمائرهم وعادوا من مختلف الجبهات بسلاحهم إلى عائلاتهم وقُراهم ومُدنهم، ولتكون قبائل ومشائخ وأبناء مأرب الشرفاء قدوتهم في تسجيل المواقف الوطنية بعيداً عن العصبية بكل صورها.
ختاماً، استعادة مأرب اليوم ليست مجرد رغبة أو طموح لـ”صنعاء” لتحقيق كسب سياسي أو تفاوضي، بل هي قرار ورهان حاسم لوقف العدوان والقضاء على طموحاته غير المشروعة في اليمن الذي يُلقن واشنطن ووكلاءها درساً هو الأقسى من كل تلك الدروس التي تلقتها الولايات المتحدة، ولم تتعظ من تجاربها في فيتنام وأفغانستان والعراق، وانجرت وراء وعود النظام السعودي وغروره بقدرته على حسم المعركة في اليمن خلال أيام معدودة، فكانت قيادة ابن سلمان لتحالف عدوان على اليمن ضم أكثر من 15 دولة أشبه بركوب سيارة يقودها شخص قاصر ومخمور، فما الذي حققه ذلك التحالف الأرعن بعد 6 سنوات من العدوان سوى التسبب بأسوأ كارثة إنسانية في التاريخ، وارتكاب أبشع الجرائم بحق الشعب اليمني العزيز، فكان سقوطه إنسانياً وأخلاقياً أمام المجتمع الدولي قبل أن يسقط عسكرياً أمام صمود وإرادة شعب لا يُقهر، حيث تصدع التحالف وانحسر وتشظت أدواته، وأصبح مرتزقته محل ازدراء، بل عبئاً يجري التخلص منه، واضطر النظام السعودي لتحمل كُلفة باهظة عسكرياً واقتصادياً وسياسياً فاقت إمكاناته ليُصبح اليوم مُرغماً على القبول بحلول وتسوية ذات كُلفة إضافية لم تكن في حساباته مطلقاً، أما “صنعاء” التي أخذت بأسباب النصر، وقدمت من أجله التضحيات الجليلة ودماء الشهداء الزكية، فقد سخرت لها العناية الإلهية الظروف لتكون في خدمتها بما في ذلك العدو نفسه انتصاراً لقضيتها العادلة، ولتمضي قُدماً في مشروعها الوطني الأصيل ليبقى اليمن شامخاً عزيزاً مُستقلاً.
*السفير محمد محمد السادة – نائب رئيس دائرة المنظمات والمؤتمرات الدولية بوزارة الخارجية