الجبري وأبو قاصف ولن يكون الغاثي الأخير: ذمار ولّادة العظماء.
اعداد : فؤاد الجنيد
سلام يا قرية منيرة
فيها الرجال المستنيرة
أهل الوفاء وأهل البصيرة
جند للإسلام
شب النكف في كل ديرة
دم الأسير أحيا ضميره
واحنا على هدي المسيرة
منهج الأعلام..
على إيقاعات هذا الزامل الملتهب الذي انشده مسؤول أنصار الله بمحافظة ذمار الأستاذ فاضل الشرقي وهو يتقدم وفدا رسميا لزيارة أسرة الأسير الشهيد محسن محسن الغاثي في مديرية جبل الشرق بمحافظة ذمار، رددت الطبيعة تفعيلاته بحفيف الشجر السامق في قمم الجبال الشامخة، وأستلقت الحيود على ظهورها فاغرة أفواهها في زحمة الغروب، وكان لقارعة الطريق المتدلية في أرجوحة السماء أن تتساءل: هل تقرأ عيون العالم ما وراء بطولات مقاتلي جيشنا ولجاننا من قضايا عادلة، وحقوق لا حيف فيها ولا جدال، ومشروعية وجود إنساني تتجلى الأشواق بلوغه لاهبةً متوقدة من محاجر محسن محسن الغاثي، ورفاقه الأبطال الذين يجترحون المعجزات بدافع من هذه الأشواق الإنسانية الدفاقة النقية. تجيبها أكوام السحب التي تشكلت على رؤوس الجبال كعمائم بيضاء ملتوية في نواصي الناسكين: “لسنا موضوعاً للفخر ولا للرثاء ولا لفغر الأفواه دهشة.. نحن شعب يشق بالأظافر والمحاجر طريقه إلى الحرية الخالصة وسط غابة من الخذلان والنفاق العالمي”.
*مواكب الإباء*
في موكب يتراقص على نتوءات الطريق الوعرة، ويشق عباب صدر الريف اليافع بعجلات أصابع تقبل قفصه الصدري، تقدم الأستاذ فاضل الشرقي وفدا رسميا في هذه الزيارة وبرفقته وكيل أول محافظة ذمار، فهد المروني، ومدير أمن المحافظة أبو حمزة الشرفي، ومدير عام الهيئة العامة للزكاة بذمار ماجد التينة، ومدير مكتب قائد المنطقتين الرابعة والسابعة، ومدير عام الإعلام ماجد السياغي، والأستاذ عبدالعظيم اللاحجي المشرف الثقافي بالمحافظة، ونخبة من المشايخ والشخصيات الإجتماعية والسياسية والإعلامية والأمنية، ذهب الجميع لتقديم التعازي والتهاني، فوجدوا في أسرة الشهيد من العزة والكرامة والثقة والعزيمة ورباطة الجأش ما يكفي الزائرين ويشحن طاقات العابرين، إنه الإيمان المتوقد في كل روح يمانٍ وقاد، والمنهج القرآني الذي ترعاه القيادة في شرايين الأفئدة ومتنفسات الرئات.
*ذمار ولّادة الأساطير*
كثيرة هي الروايات والأساطير التي وصلت إلينا من الزمن الغابر وهي متخمة بالخيال والسيناريوهات الخارقة للعادة لتصف لنا وقائع خالدين في الذاكرة سطروا ملاحم وبطولات استحقت أن تكون جزء من تأريخنا الناصع، لكن عظماؤنا بتضحياتهم ومواقفهم كمموا أفواه الفصاحة وحيّروا أقلام الكتاب، وجعلوا ممن يكتب عنهم عاجزاً عن التعبير ومتوسلاً اللغة في أبجدية جديدة تسطر أساطير الاسطورات. هم رجال رضعوا من ثقافة القرآن حولين كاملين، ثم ترعرعوا في أحضان المسيرة القرآنية، تغدقهم بدفء الروح وتمنحهم جرعات التربية والأخلاق، تحفر في صدورهم حب الجهاد وعشق الاستشهاد، وتسقي اكبادهم بواجبهم المسئول تجاه هذا الدين الذي بات غريباً يشكو هجران أهل زمانه وانصرافهم إلى أديان أخرى بموالاة أئمة الكفر سراً وعلانية.
*الجبري ..أسطورة الموقف*
عبدالقوي الجبري، ذلك الأسير الذي دفن حياً وعرقه لم يجف في التنكيل بآسريه، وأنت ترى مشهد لحظاته الأخيرة في مشوار العاجلة التي ختمها بوسام الشهادة؛ سترى ليثاً يزأر في عرينه الترابي، وجبلاً شامخاً لا تهتز اوتاده، وموقفاً كافياً يترجم عقيدة المؤمنين وعزيمة المجاهدين وإصرار الكرارين. هو إبن ذمار الشموخ ومديرية جبل الشرق المتدلية بالسحاب ووميض القمر، يروي تفاصيل رسالته للعالم الأصم والمستديرة الصامتة بحزمات المال وبراميل النفط، وهذه هي تفاصيل القصة على لسان أبلغ الأقلام:
سُب عبد الملك! سُب عبد الملك! سُب عبد الملك!
يصرخ في وجهه شُذاذ الآفاق، وعبيد المحتل ونعاله، وقد دفنوه وصوبوا الرصاص تجاهه؛ فيُطرق برأسه لعشر ثوان، يفكر ويفكر، في موقفٍ يعجز عن التفكير فيه أشجع الشجعان وأقوى الفرسان..
وضع رأسه على التراب وهو يتأمل جسده المدفون، والرصاص المُصَوب نحو رأسه تنتظر إشارة الشيطان، لكنه كان في عالمٍ آخر، وكأني به قد رفع رأسه إلى عنان السماء بكبرياء وشموخ، وامتلأ قلبه باليقين، ورأى النور الإلهي والمَدد الرباني، وأرسل الجواب إلى قائده الذي يطلبون منه سبه، أرسل رسالته واضحة جلية بعد أن جمع أصابع كفه اليمنى وقذَفَ ” بقبلةٍ” تخرج من بين التراب والرصاص، أرسلَ “قُبلته” إلى قائده، وكأنها صاروخ باليستي مجنح، أصابت العملاء بحيرةٍ وخيبةٍ وهزيمة.
أرسلها بطلٌ، لا أدري ماذا أسميه” الشهيد الحي” ” أم الحي الشهيد” فقد كانت لحظاته لحظات صراعٍ نادر بين حياة وموت وموت وحياة، لقد اختار الحياة الأبدية خاتماً حياته ” بقبلةٍ” سيسطرها التأريخ في أنصع كتبه، أن رجالَ قائدٍ يمني يرسلون له القبلات وقد دفنت أجسادهم، وصوبت النيران فوق رؤوسهم، في مشهد نادر ومؤثرٍ وفريد.
*أبو قاصف..أسطورة الفداء*
وفي الجهة الأخرى يسطر إبن وصاب العزة والإباء “عيسى أبو قاصف” ملحمة الحجارة التأريخية التي تبدو للإعجاز أقرب من الإنجاز وهو يثبت شامخاً بدون سلاح ومنكلاً بالاعداء بمفرده بعد أن استشهد رفيقه، ولم يجد سوى الحجارة سلاحاً منحته نصراً كان الله قد كتبه وأذن به، وهذا المشهد الذي شده ملايين المشاهدين، ليس إلا نزراً من كثير مشاهد توثق بالصوت والصورة وقائع بطولية، لو رويت مشافهة لما أمكن لصديق ـ عِوضاً عن عدو ـ تصديقها. عيسى أبو قاصف بطل مشهد البيضاء، ليس كائناً مفارقاً للطبيعة البشرية، بل مجاهد تنضح خلف أضلاعه ينابيع إيمان كفيلة بأن تكسر مقاييس الممكنات التي بمقدور مخيلة؛ لم تخبر الطاقة الخلاقة للإيمان، أن تستسيغها كمصاف أعلى لفعل فذ ومغاير. لا يعرض إعلامنا الحربي مقاطع أكشن يستهدف بها استقطاب أكبر عدد من المشاهدين على وسائط الاتصال التقليدية والإلكترونية، كما أننا لا نرمي لاستعطاف الأفئدة بعرض أشلاء أطفالنا من ضحايا مجازر العدوان في المدارس والمنازل والطرقات، فإننا لا نرمي لتحطيم أرقام مشاهدة قياسية بعرض بسالة رجالنا في جبهات العزة والشرف. في الأولى نحن نرمي لإجلاء حقائق مظلومية شعبنا التي تجتهد ترسانة ميديا العدوان الكونية في حجبها وإعدامها والتدليس عليها، لنقيم الحجة على العالم المنافق والمحايد والمتواطئ والوالغ في دمنا. وفي الأخرى نحن نرمي لإجلاء مشروعية الرد انتصافاً لمظلومية لا مناص للجحود بها، كما وإجلاء مستوى ما نحن عليه من ثبات ورسوخ وإيمان بهذه المظلومية الجلية للأبصار، ومستوى جهوزيتنا للتضحية في سبيلها لا بطراً ولا أشراً ولا عدواناً على أحد، وإنما نشداناً لردع الاستكبار وجلاديه عن لحمنا ودمنا وترابنا وحقنا في حرية بلدنا واستقلال قرارنا الوطني، وإرساءً لقواعد سلام لا ذلة فيه ولا ضعة.
*أسطورة المقاتل اليمني*
ليست بالأساطير، لكنها ملاحم صمود على أرض الواقع سجلت رحاها عدسات الكاميرا، وهي تصنع المستحيل من الانتصارات الخالدة، ليس فقط في معركة الذود عن اليمن أرضا وإنساناً بل وفي معركة تعليم الخصوم أخلاق وأداب القتال، وهذا فعليا ما يسطره أبناء الجيش واللجان الشعبية بصلابة وصمود ومجريات مذهلة تهز عرش قوى الاستكبار والطغاة في مشاهد بطولية انبهر بها العالم عن مدى رباطة الجأش والقوة التي يتميز بها المقاتل اليمني والذي يقاوم أسلحة الاستكبار العالمي بإمكانياته البسيطة وبإيمانه الكبير بالله وعدالة قضيته ومظلومية وطنه، فنعم ما يصنعه “اسطورة الميدان” المقاتل اليمني المجاهد الباسل في الميدان بسلاحه الشخصي، ليوصل السعودية الى شباك “الصفر”. ثبات، اداء، احترافية، ايمان، صبر، تخطيط، تنسيق، جرأة، بسالة، ابداع ثم انجاز هي لغة عصف حجم الخسائر المادية والبشرية في صفوف القوات السعودية الغازية وتحالفها في اليمن، كيف لا، والجميع يلاحظ بسالة وشجاعة المقاتل اليمني وهو يسطر أروع المشاهد والمواقف الرجولية النادرة في مواجهته مع قوى الغزو والاحتلال وعملائهم في كل مواقع البطولة والتضحية والفداء داخلياً وفيما وراء الحدود قاهراً كل الظروف ومتجاوزاً كل العوائق يخطو قدما نحو مواقع العدو بثقة عالية وبهمة وحماس كبير محققا الانتصارات العظيمة حاملاً في كتفه اليمنى سلاحه وفي اليسرى روحه واهباً حياته في سبيل عزة ونصرة ومجد وكرامة شعبه واستقلاله وسيادة وطنه الغالي رافعاً هاماته نحو العلى لا تهاب في الله لومة لائم متعطشا للنصر المؤزر والحاسم.
*معنوية وإيمان*
في المعارك العسكرية الحديثة, وعلى الرغم من النقلة النوعية الكبيرة التي شهدتها الصناعات العسكرية بشتى أنواعها ومجالاتها, إلا أن الروح المعنوية للمقاتل كانت ولازالت تحتل حيزاً كبيراً وأهمية بالغة في السياسات العسكرية لدول العالم المتقدمة لما تشكله من نسبة كبيرة وعاملاً إستراتيجياً مهماً في تحقيق النصر على الخصم, فمهما بلغت درجة تسليح المقاتل تكنولوجياً وفنياً وعسكرياً ومهما بلغت درجة إعداده القتالي الميداني لمستويات متقدمة إلا أنه لن يستطع إنجاز مهامه الموكلة إليه بكفاءة عالية وبالمستوى المطلوب والمأمول خصوصاً في المعارك الميدانية التي تتطلب جهداً بدنياً ونفسياً كبيراً وتحتاج إلى فترات طويلة, من هنا تأتي أهمية حضور الجانب النفسي والمعنوي والفكري بشكل أكبر أثناء إعداد المقاتل لأية معركة عسكرية محتملة لضمان تحقيق النصر وبلوغ الأهداف المرسومة. ومن هذا المنطلق وإيماناً من قيادة الجيش واللجان بأهمية الجانب المعنوي والنفسي للمقاتل اليمني, فقد حرصت ومنذ قيام العدوان الأمريكي-السعودي الغاشم على وطننا الحبيب, على إعطاء هذا الجانب حيزاً كبيراً واهتماماً استثنائياً في خطط واستراتيجيات ومراحل إعداد المقاتل, الأمر الذي تجلى فعلياً من خلال مواقفه البطولية الشجاعة التي يسطرها بشكل دائم في كافة محاور وجبهات المواجهة مع قوى الغزو والاحتلال ومرتزقتهم وعلى مدى ما يقارب الخمسة أعوام, فالثبات والصمود وخوض غمار المعارك المباشرة وتحمله لقساوة الظروف المحيطة في مناطق المواجهات, بالإضافة إلى شجاعته الباسلة في اختراق استخبارات العدو والسيطرة على مواقعه ومعسكراته المحصنة تحت نيران طائرات الأباتشي وغيرها كل ذلك يؤكد أن المقاتل اليمني فعلا مقاتل محترف, متمكن, شجاع, مقدام, يمتلك من العزيمة والإرادة والثقة والروح المعنوية ما لم يمتلكه غيره في أحدث الجيوش العالمية, ولهذا صار يحظى باهتمام وإعجاب معظم الشعوب التي تتابع تحركات المقاتل اليمني الصامد وهو يسطر أروع المواقف البطولية بسلاحه المتواضع وبهيئته البسيطة بكل كفاءة واقتدار وبمعنويات عالية.