الخبر وما وراء الخبر

 دروس من هدي القرآن الكريم

66

الثقافة القرآنية
( ١ )
ألقاها السيد/ حسين بدر الدين الحوثي
بتاريخ: 4/8/2002م
اليمن – صعدة

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
والصلاة والسلام على رسول الله، الذي بعثه الله رحمة للعالمين، وأنزل عليه الكتاب المبين لِيُعَلِّم الأمة ويزكيهم، صلوات الله عليه وعلى أهل بيته الطاهرين.
في البداية نعتذر للإخوة المعلمين وللطلاب جميعاً أننا لم نقم بزيارتهم لحد الآن، وليس ذلك عدم تثمين لهذا العمل، أو عدم تقدير لما يقوم به الإخوة المعلمون والطلاب، وإنما لشواغل أخرى، ولثقتنا – أيضاً – أن في المدرسة من الإخوة المعلمين من فيهم الكفاية في التعليم, في التوجيه, في الإرشاد, في التربية، وليس هناك حاجة بالنسبة لنا، لكن هذه زيارة نتشرف بها لهذه المدرسة، نتشرف بها للإخوة المعلمين وللطلاب جميعاً، ولنتحدث معكم أيضاً لم نجعلها بشكل رسمي كمحاضرة، جلسة عادية طبيعية، نتحدث معكم ونشترك مع الإخوة المعلمين في توجيهكم بما ألهمنا الله, كما يقول الناس: (نريد مما ألهمك الله).
في البداية نقول: هي نعمة عظيمة علينا جميعاً، علينا كمعلمين وعليكم كطلاب أن يُتاح لنا جميعاً فرصة أن نُعلّم ونتعلم، ففي الحديث الشريف عن رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله): ((من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً إلى الجنة)) فهي نعمة، والله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم – على الرغم مما تمنن به على عباده من نعم مادية كثيرة – يعُدُّ نعمة الهداية، نعمة الدين، نعمة الإسلام يعدها أعظم النعم على البشرية، أعظم النعم على الناس جميعاً.

لهذا نجد كيف ذكر الله سبحانه وتعالى في أكثر من آية – قد تكون في القرآن ربما ترددت أربع مرات – وهو يذكر للناس أنه قد مَنّ عليهم بنعمة عظيمة {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ} (آل عمران:164) وفي هذه الآية يقول: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِين} (الجمعة:2).
شر الضلال والآثار السيئة للضلال تعتبر بالنسبة للإنسان أشد وأفتك وأسوأ من أن تنقص عليه نعم مادية أخرى، أسوأ من الجوع، أسوأ من الفقر، أسوأ من المرض؛ لأن تلك مصائب أو أضرار أو شرور قد لا يترتب عليها آثار سيئة جداً، أما الضلال، أما مصيبة الضلال، أن يعيش الإنسان في ضلال، أن يعيش الناس في ضلال فإن آثاره سيئة جداً عليهم في الدنيا وفي الآخرة، ومن أسوأ عواقب الضلال هو الخلود في جهنم – نعوذ بالله من جهنم – يمكن أن تجوع فتسُد رمقك بأي شيء، حتى ولو من النباتات، ولا يؤدي بك الجوع إلى جهنم، يمكن أن تعاني في فترة من حياتك ظروف صعبة، تعاني من فقر أو مرض لا يؤدي بك هذا إلى جهنم.

أما الضلال فإنه يؤدي بالناس إلى الخزي في الدنيا، إلى الذلة، إلى القهر، إلى العبودية لأولياء الشيطان، إلى الخضوع للفساد والباطل، وبالتالي سوء الممات، سوء البعث، سوء الحساب والخلود في جهنم.
فالله عندما يذكّر عباده بأنه منّ عليهم برسوله (صلوات الله عليه وعلى آله)، ومنّ عليهم بأن أنزل عليه القرآن، يتلوه على الناس يُعلمهم به، يزكيهم به، يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ويزكيهم وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ. {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} (الجمعة:3) أولئك الذين عاصروه نعمة كبيرة عليهم، ومِنّة عظيمة منّ الله عليهم، هم ومن بعدهم {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ} من الناس من الأميين {لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم} ذلك فضل اللَّه {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (الجمعة:4) هذا فضلٌ عظيم من الله أن يبعث في الأميين.

كلمة (أمِّيين) تطلق على العرب؛ باعتبار أنهم كانوا فيما يتعلق بالقراءة والكتابة لم تكن منتشرة فيهم، وقد يكون اسماً يطلق على من سوى أهل الكتاب من الأمم، كلمة أميين: تطلق على من سوى أهل الكتاب من الأمم، وما تزال تستخدم إلى الآن عند أهل الكتاب أنفسهم {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ}.(آل عمران: من الآية75) وكيفما كانت كان العرب أمة أمّية، ليس لها ثقافة، ليس في أوساطها أعداد كبيرة من المثقفين من العلماء، أمة تعيش حالة بدائية؛ فأن تحصل على هذه النقلة العظيمة من مرحلة البدائية مرحلة الأمية إلى أن تُمنح هذا القرآن العظيم، الذي جعله الله مهيمناً على كل الكتب السماوية السابقة.

كتاب عظيم، كتاب واسع، ثقافته عالية جداً، عالية جداً تجعل هذه الأمة – لو تثقفت بثقافته – أعظم ثقافة، وأكثر إنجازاً، وأعظم آثاراً في الحياة، وأسمى.. أسمى روحا، وأسمى وضعية، وأزكى وأطهر نفوساً من أي أمم أخرى، من هنا يقول: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ} تكون نفوسهم زاكية، مجتمعهم زاكي، حياتهم زاكية، نظرتهم صحيحة، رؤيتهم صحيحة، أعمالهم كلها زاكية.
{وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} الكتاب هو القرآن الكريم، كرره مرتين في هذه الآية؛ لأنه هو المهمة الرئيسية للرسول (صلوات الله عليه وعلى آله) هو أن يتلو الكتاب على الناس، يعلم الناس بهذا الكتاب، عمله كله يدور حول القرآن الكريم، يتلو عليهم الكتاب {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} التي هي القرآن الكريم.
{وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} الحكمة هنا ما هي؟. عادةً يقول بعض المفسرين السُنة. يسمونها السنة. الكتاب والحكمة قال: الكتاب والسنة، هذا غير صحيح، غير صحيح.
الحكمة: أن تكون تصرفاتهم حكيمة، أن تكون مواقفهم حكيمة، أن تكون رؤيتهم حكيمة. الحكمة هي ماذا؟ هي تتجسد بشكل مواقف، بشكل رؤى، بشكل أعمال، هي تعكس وعياً صحيحاً، وعياً راقياً، تعكس زكاءً في النفس، تعكس عظمة لدى الإنسان, الحكمة في الأمور. {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}؛ لأن الله قال في آية أخرى لنساء النبي {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ}(الأحزاب: من الآية34) هل معنى ذلك أنهن يقرأن أحاديث في البيوت؟ لا.
القرآن الكريم اسم عام للقرآن الكريم: القرآن الكريم داخله آيات، كلمة (آيات القرآن) لا تعني فقط الفقرة من الكلام ما بين الرقم والرقم، ما بين الدائرة والدائرة، آياته حقائقه أعلامه فيما يتعلق بالحياة بصورة عامة، فيما يتعلق بالتشريعات بصورة عامة، فيما يتعلق بالهداية بشكل عام، آياته.
والقرآن الكريم فيه أشياء كثيرة تتجه نحو الإنسان لتمنحه الحكمة {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ}(الاسراء: من الآية39) كما قال في سورة [الإسراء] بعد أن ذكر عدة وصايا الوصايا العشر يعددها ثم قال: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ}.
كلمة (حكمة) في القرآن الكريم لا تعني سُنة إطلاقاً. لا تعني سُنة إطلاقاً رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) مُهمتُه هو أن يعلم الناس هذا القرآن بما فيه من آيات وهي: أعلام وحقائق في كل مجال تتناوله.

{وَيُزَكِّيهِمْ} تزكوا نفوسهم تسمو تطهر، وعيهم يرتقي يرتفع بما فيه من الحكمة؛ ولهذا جاء في أكثر من آية يصف القرآن الكريم بأنه كتاب (حكيم)، وسمّاه في أكثر من آية بأنه (حكيم)، وأن آياته (أُحْكِمَت)، وأن آياته (محكمة) إلى آخر ما في القرآن الكريم من ثناء على نفس القرآن.. أنه في الأخير يجعل كل من يسيرون على وفق توجيهاته ويتثقفون بثقافته يُمنحون الحكمة. والعكس, الذين لا يسيرون على ثقافة القرآن، لا يهتمون بالقرآن سيفقدون الحكمة، وسيظهر مدى حاجة الناس إلى الحكمة في المواقف المطلوبة منهم في القضايا التي تواجههم.
مثلاً الآن في هذا الوضع الذي نعيش فيه وتعيش فيه الأمة العربية, الأمة الإسلامية، ونحن نسمع تهديدات اليهود والنصارى، تهديدات أمريكا وإسرائيل وسخريتها من الإسلام ومن المسلمين ومن علماء الإسلام ومن حكام المسلمين بشكل رهيب جداً، تجد موقف الناس الآن موقف الناس بكل فئاتهم يتنافى مع الحكمة، أي هم فقدوا الآن الموقف الحكيم مما يواجهون، الرؤية الحكيمة لما يواجهون، النظرة الصحيحة للوضع الذي يعيشون.