الخبر وما وراء الخبر

نساء قائدات

44

بقلم / أمل المطهر

تجمَّدت الكلماتُ بداخلي وتناثرت حروفي مبتعدةً متواريةً عني..

لم أدرِ كيف أصيغهن وماذا سأكتبهن!!

كن يجتمعن ملبياتٍ لنداء الواجب؛ للمساعدة في إعداد كعكٍ لقافلةٍ تقدِّمُها أُسْــرَةُ شهيد باسم عظيمِها رأيتهن وكُــلٌّ تعلو وجهَها ابتسامةُ رضا ونظرةُ تحَـدٍّ وإصرار.

كُلُّ واحدة كانت تروي قصةَ عظيم لها رَحَلَ إلى السماء بعد أن باع لله وقَبِلَ بيعَه.

العجيبُ أنني لم أجد في حديثهن عن أحبائهن عبراتٍ، ولم ألحظ بين حروفهن بريقَ دموع أَوْ انكسار.

مَن لا يعرفهن أَوْ يعرِفُ النهجَ والثقافةَ التي تشربنها سيظُنُّ أَنَّهن مريضات أَوْ مصابات بقسوة القلب فكيف لا ترتجفُ حروفُ تلك الأُمّ وهي تحكي عن بطولات ولدها الشهيد.

كيف لا تنهار وتذرف الدموع وهي تسرد لنا آخر لحظاتها معه وهو يودعها الوداع الأخير!!!

وكيف استقبلته شهيداً وكيف بحثت عن موضع جُرحه لتقبله.

وتلك الزوجة كيف لا نجدُ في حديثها انكساراً وضعفاً وهي تحكي زوجها البطل..

وتشرح لنا كيف كان يعامِلُها ويعامل أبناءه..

لماذا لا تشكو وتندب!!، لماذا لا تيأسُ من الحياة وتعيشُ في حالة التنكر وتشكو من ضيق العيش وصعوبة الحصول على أبسط الإمكانيات التي تسد رمقها هي وأبناءها !!!

ظللت أرقبهن وأنا أشعر بالخجل؛ لأنني شعرت بالتقزم أمام عطائهن وقوتهن.

فأُمُّ الشهيد تعجن الكعك وهي تسبِّحُ وتؤدي الصلاةَ الإبراهيمية ونحن نتبعها في ذلك، وبعدها تقول لي وهي تراني منبهرةً منذهلةً من ذلك العنفوان والإيْمَـان: ابني سبقني إلى الله ووجد الطريقَ إلى الجنة..

وها أنا أسير في نفس طريقه؛ كي نتقابَلُ هناك لنعيشَ من جديد سوياً، فلا تتعجبي.

فنحن من سنعلِّمُ العدوَّ الدروسَ ونوجعُه بهذا العشق لنيل الشهادة.

أَمَّا زوجةُ الشهيد فهي تعد أبناءها ليكونوا كأبيهم حتى في طريقة كلامه، لا تريد أن ينحرفوا قيدَ أنملة عن طريقه.

فهي -كما تقول- لا تريدُ أن تكونَ أقلَّ من زوجها في الجِهاد وتقديم التضحيات، تريد أن تقابلَه وهو راضٍ عنها مستبشراً بقدومها.

تريد أن يكونَ أبناؤه وَجَعاً وأَرَقاً للعدو كما كان والدهم لا يهمها شيء سوى أن تؤدي الأمانة.

وتظل عند عهدها مع شريك حياتها في المضي على دربه حتى يحينَ موعدُ اللقاء.

بنات شهداء يتناقشن فيما بينهن، تلك تحكي عن مكان استشهاد والدها وعن بطولاته وعن وصيته، وتلك تبادرها بنفس الحديث عن والدها الشهيد، والكل يربطهن رابطُ التضحية والفداء، فتراهن كهالةٍ من النور يسعين نحوَ العلو سعياً.

وبينما نحن في خضم ذلك العنفوان والسمو وأنا أراهن يعملن ويبتكرن ويتلون الدعواتِ للمجاهدين وللجرحى والأسرى

رأيت في ذلك العنفوان والإباء والإيْمَـان مستقبلَ اليمن الزاهر.

تعجبتُ من حمق العدو كيف يفكّرُ ولو للحظة أن بإمكانِه أن يكسِرَ نساءً يملكن صفاتِ القادة من الرجال.

فكيف لنساءٍ لا تهزهن مشاعرُ الفراق للأعزة ولا تصيبهن رياحُ الحزن والسواد، أن تخيفهن صواريخُهم أَوْ تكسرهن مكائدُهم أَوْ توقفهن وتخترق نفسياتِهن حروبهم بكل أشكالها؟!

كيف لنساء يتسابقن للافتخار بمن قدمن من فلذات أكبادهن وبعظم تضحياتهم أن يسقطن في حفرهم ويتعثرن في مطباتهم.

هؤلاء هن مَن تشرفت بالجلوس معهن، فوجدت فيهن ما سيعجز الكونُ بأسره عن استهدافه أَوْ هزيمته.

فذلك الإيْمَـان الذي يملأُ قلوبَهن والوعي الذي يلفُّ عقولَهن جعلهن قائداتٍ في جبهاتهن، فكل واحدة منهن تقفُ خلفَ مترسها تصوّبُ سلاحها نحو صدر العدو مباشرةً؛ لترديَه صريعاً بوعيها وقوتها وإيْمَـانها.

نساءٌ لبيبات واعياتٌ يقدن معركتَهن بكل بسالة وصمود.

فكأنني أجلس مع أعظم القادة السياسيين والعسكريين.

قائداتٌ لا تأخذهن في عدوهن أيةُ رحمة، يواجهنه بكل طاقاتهن، ويسعين لسد كُـلّ ثغرات يمكن لها أن تمرِّرَ إليه أيَّ بصيص أمل للولوج إلى نفسياتهن وإضعافها.

قائدات عظيمات يحمل نياشينَ ورُتَباً وأوسمةً إلهية براقة.

فتلك برتبة أُمِّ الشهيد..

وتلك أُمُّ الشهيدين وتلك أُمٌّ لثلاثة وأربعة شهداء.

وتلك تحمل وسامَ زوجة شهيد، وتلك وسام ابنة شهيد، وكلهن فخرٌ واعتزازٌ بتلك الأوسمة، ويحملنها كأمانة في أعناقهن، مستشعراتٍ لمسؤولياتهن.

فكيف لكُلِّ هذا الشموخ أن ينهدِمَ بغبارِ عاصفة حمقاء.

كيف لكل هذا الإيْمَـان والثقة أن يتلاشى أمامَ مصاعبَ يَعِين أنه لا بد من مواجهتها في طريقهن الجهادي.

كل يوم أرى مثل هذه النماذج العظيمة بين نسائنا أعرفُ وأثقُ أن مستقبلَ اليمن بين أيادي قائدات محنَّكات بحق.