الخبر وما وراء الخبر

محاربة الفساد.. خطوةٌ وطنيةٌ لتعزيز الصمود في مواجهة العدوان

59

بقلم / منصور البكالي

السؤالُ الذي يطرَحُ نفسَه هو: هل قرارُ محاربة الفساد وتوقيفُ 74 فاسداً نابعٌ عن إرَادَة وعزيمة منطلقة من خطط وبرامج مدروسة لمحاربة الفساد؟، وإلى أي مدى يمكن الاستمرارُ في محاربته وتجفيف منابعه؟، وما مدى قدرة الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة على خوض هذه المعركة في ظل قضاء فاسد وأجهزة دولة بُنِيَت على الفساد، وصراع سياسيّ بين أجنحة قديمة ومتجدّدة تربّت على ثقافة الفساد والمحسوبية والمحاصصة، وفي ظل عدوان وحصار وحرب اقتصادية وسياسيّة وإعْلَامية ونفسية وناعمة على شعبنا اليمني؟!.

وهل اتخذت القيادةُ السياسيّة قرارَ محاربة الفساد وفقَ رؤية ومنظومة متكاملة، تستطيعُ من خلاله الولوجَ في ملاحقة الفساد وآثاره إلى داخل عمق كُـلّ مؤسّسات الدولة ومفاصلها؟، وهل أولوية محاربة الفساد تتطلّبُ البدايةَ بالسلطة القضائية والنيابات وأقسام الشرطة كتمهيد لمعركة كبرى يجب أن تصل إلى داخل السلطات التشريعية والتنفيذية؟.

هنالك أجوبةٌ عديدة على سؤال متكرر، ربما مفادُه: إلى أي مدى يمكنُ للجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة ودعم رئيس المجلس السياسيّ الأعلى مهدي المشّاط أن يستمرَّ في معركة الحرب على الفساد؟ وما هي ضماناتُ النجاح والفوز في هذه المعركة؟، وهل سيكون لمعركة الحرب على الفساد تداعياتٌ سياسيّة مؤثرة على الصمود الشعبي في مواجهة العدوان؟، أم ستعزّز الحربُ على الفساد صمودَ شعبنا اليمني في مواجهة العدوان وتزيدُه ثقةً بالقيادة السياسيّة، وتسهم في التخفيف من آثار الحرب الاقتصادية من خلال زيادة الإيرادات، وتقليص النفوذ لأصحاب المشاريع الخَاصَّة، وعودة الأمل لدى أبناء شعبنا اليمني بوجودِ دولة نزيهة وشفافة تحترمُ النظام والقانون وتنطلق من واجب القيام بالمسئولية؟.

ولربما الإجابة تختلف وفقًا للتغييرات التي أحدثتها ثورة 21 سبتمبر على صناعة القرار السياسيّ وتبعاته، الواجب وصولها إلى داخل مفاصل الدولة بكل مؤسّساتها، ووجوب تلبيتها لتطلعات الشعب اليمني الثائر في وجه الفسدة والغزاة والمحتلّين ومرتزِقتهم، وفق سياسات تحقّق منطلقاتِ ثورتنا المستمرّة، وتواصل السير نحو مشروع البناء والتنمية وامتلاك القُــوَّة المواكبة للاستقلال والنهوض.

فمحاربة الفساد أمانة يحمِّلُها شعبُنا اليمني قائدَ الثورة ورئيسَ المجلس السياسيّ الأعلى وحكومة الإنقاذ الوطني.

وخوض هذه المعركة ليست بالمهمة السهلة والممكنة في ظل العدوان والحصار، وبعد 40 عاماً من تأسيس دولة على المحسوبية والولاء للحزب والجماعة والرشوة والمحاباة، استفحل فيها الفساد ووصلت تأثيراته إلى كُـلّ مؤسّسات الدولة وأجهزتها وهيئاتها المختلفة، فكانت له تداعياته السياسيّة والاجتماعية والاقتصادية.

ومن هذه التداعيات على المستوى السياسيّ: بروزُ شخصيات مركَزية في السلطة متورطة في أعمال وصفقات فساد كبيرة، مع عدم محاسبتها، واستمرارها؛ لكونها قريبةً ومحسوبةً على السلطة آنذاك، ببناء علاقات فيما بينها، بحكم قاعدة تبادل المصالح، مما ينعكسُ سلباً على السلطة السياسيّة، ويسبّب في انتشار هذه الظاهرة وتقليدها في أوساط القيادات السياسيّة، وقيادات جميع المؤسّسات الكبيرة والمتوسطة لتحقيق المصالح الشخصية في ظل غياب العقوبات الرادعة، وتطور الأمر ليشرّع مجلس النواب في عام 1995م قانوناً يحمي كبارَ الشخصيات السياسيّة عن قانون الاستدعاء والمحاسبة على أية أعمال فساد مالية أَوْ إدارية.

مما أدى إلى توسع هذه الظاهرة في مختلف القطاعات العامة والخَاصَّة، بما يسيء إلى سمعـة السلطة ومكانتهـــا ويزرع مشاعر الاحباط واليأس لدى المواطنين، ويزعزع الثقة بالنظام السياسيّ، وتنزع هيبة واحترام النظام والقانون، بسبب تعرض مصالح الشعب بدرجات متفاوتة، للضياع والسلب والنهب في ظل غياب العدالة وفساد السلطة القضائية والنيابات واقسام الشرطة.

فترتب على الفساد السياسيّ انعدامٌ للحرية والديمقراطية وتسليط القُــوَّة العسكرية ضد مَن يعارض فساد الدولة وسياساتها البعيدة عن المصلحة الوطنية، والزجّ به في السجون والزنازن، أَوْ شنّ الحروب عليه كما حدث في حرب عام 94 والحروب الست على محافظة صعدة.

أما على المستوى الاجتماعي: فثقافة الفساد ثقافة مادية، لا مجالَ فيها للروحانيات أَوْ العواطف النبيلة، أَوْ المشاعر الإنْسَانية، فهي تهمل العلاقات الاجتماعية القائمة على التعاطف والتكافل، والاهتمام بمصالح الآخرين وحقوقهم ومشاعرهم، وتشكل عالماً يجعل من الشح والبخل فضيلةً، ويشجع على الجشع، والانتهازية، والسعي لتحقيق الأَهْدَاف والرغبات والنزوات والأهواء بأية وسيلة دون أدنى التفاتٍ إلى القيم والمبادئ السامية التي يمتازُ بها شعبُنا اليمني، فانتشر الفقر وزادت الفجوة بين الطبقات، وظهرت الجريمة بكل أنواعها، وأخذت الحرب الناعمة حقَّها في التأثير على شبابنا وزعزعت قيمنا ومبادئُنا المحافظة، فوجدت بعض المراقص وأوكار الدعارة وبيع المخدرات، وكان المجتمع يدفع نحو التغريب في مختلف الجوانب.

وعلى المستوى الاقتصادي: فإن الفساد يسلبُ مواردَ الوطن، ويقلص إيراداته الحكومية، وبالأخص الإيرادات الضريبية، والرسوم الجمركية.

ويزيد من تكاليف العقود، ويخفض الجودة النوعية، ويشوّه السياسات، ويحُدُّ من الاستثمار، ويعقد صفقاتٍ سريةً ومشبوهة مع الشركات المنقّبة عن المواد النفطية والغاز، ويدعم شبكات المافيات العالمية في تهريب المعادن النفيسة والآثار ومصادَرتها عن الشعب لخدمة مافيات أسرية أَوْ حزبية أَوْ مناطقية، فالفساد يضر بالاقتصاد ويعطّل نموه، ويعيق تقدمه.

والفسادُ منظومةٌ متكاملةٌ ومترابطة وفق عملية ممنهجة ومحبوكة خَبِرَها أربابه ومنظروه منذ نعومة أظافرهم عبر عقود في جسد مؤسّساتنا المختلفة، حتى تحول إلى جزء من عملهم الأساسي، فعرقل كُـلَّ البرامج والخطط والخدمات ليصيرَ مشروعاً للكسب وتمرير الصفقات المشبوهة على حساب هذا الشعب، وتحولت كُـلّ أجهزة الدولة إلى ممتلكات وإقطاعيات تابعة لنافذين فيها، نجحت في تسخيرها لتحقيق أطماعهم وأهوائهم ونزواتهم المادية والشيطانية المختلفة، وحَرَفَتها عن القيام بالدور المطلوب منها بشكل سليم، وتحول موظفو هذه المؤسّسات إلى مُجَــرّد قطيع من العبيد يلزمهم التماشي مع رغبات وأهواء مدرائهم ورؤساء الهيئات التي يعملون بها، ومن يحاول منهم العملَ بإخلاص وِفْــقاً للوائح القانونية، أَوْ يقدم النصح لهؤلاء القيادات، يكافَأ بالطرد أَوْ التهميش، وكم هناك من قصص مُحزنة في هذا السياق!.

ونحتاج في سبيل مواجهة الفساد، والقضاء عليه إلى إطلاق رؤية شاملة تتكون من مجموعة من الخطط المدروسة وِفْــقاً لكل مؤسّسةٍ على حدة، تبدأ من داخل المنظومة القضائية والجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة وهيئة مكافحة الفساد، إضَافَـةً إلى أجهزة الأمن ومجلس النواب والشورى وتنتهي بأبسط إدَارَة خدمية.

فكما هو الفساد فنٌّ وخبرة شديد الترابط يجب أن تكون رؤية مواجهته وفق منظومة مبنية على أسس ومعطيات علمية وقانونية سليمة تذلل أمامها كُـلّ الصعاب والعراقيل في الوصول إلى أدق المعلومات والتفاصيل، نردع بها كُـلّ من يقف حجر عثرة، محاولاً تغييبَ الكثير من الحقائق حول سير الأعمال ومستوى الأداء في المؤسّسات المختلفة وتقييمها من خلال نسبة تقديمها للخدمات التي أُنشئت لأجلها ونوعيتها دون تعسفات وعراقيلَ وابتزاز بحق المواطنين من الباحثين ولجان مكافحة الفساد.

إلى ذلك تحتاجُ عملية محاربة الفساد بعضاً من الأولويات الضرورية والهامة مثل إنشاء مركز أبحاث خاص ومستقلّ بعلم ومهارات وخبرات محاربة الفساد؛ لتقديم المشورات ورسم الخطط ووضع البرامج الواضحة للقضاء على الفساد وكل مظاهره، من خلال نُخَبٍ مؤهلة بكافة الخبرات والمهارات التي تمكّنها من الوصول إلى أدق التفاصيل عن منابع الفساد وأسبابه، إضَافَـةً إلى تشريع وسن قوانين عقابية رادعة بحق كُـلّ من يحاول تأخير عمل لجان البحث والتقصي أَوْ منعها أَوْ عدم التجاوب معها أَوْ التهرب من التعاون معها وإعطائها لكافة البيانات والمعلومات والأعمال والأجوبة عن التساؤلات التي تراها مهمة في الوصول إلى معلومات ومؤشرات توضحُ مكامنَ الفساد المالي أَوْ الإداري في أجهزة الدولة بمختلف القطاعات العامة المختلطة، إضَافَـةً إلى القطاع الخاص.

فيتم على ضوئها اتّخاذُ كافة القرارات والمؤشرات والمعطيات السليمة، كتوجيه التهم، وتنفيذ العقوبات، ووضع الحلول، والبدائل في معركة الحرب على الفساد، وننتصرُ معها بتحقيق الخطوات الأولى لتنفيذ مشروع الرئيس الشهيد صالح على الصمّاد رحمه الله “يدٌ تحمي ويدٌ تبني”، وندحر الفساد والمفسدين من كُـلّ مؤسّساتنا، ونعزّزُ بذلك قيمَ الصمود والثبات في مواجهة العدوان والحصار.. وننتصر على الفَسَدة والمعتدين ومرتزِقتهم.