فريدة لؤلؤية من ريح صعدة الأبية الإمام الهادي: الندى المنثور عمّ أرجاء اليمن بالهدى والنور
عفاف محمد
*لا زالت بعض الأحداث الهامة في تاريخ الإسلام مغيبة بفعل أيادي الشر وذوي آفات الأفكار ممن يضمرون الضغينة لآل البيت ويغيبون سيرتهم الجليلة بمأثرها ومأسيها وكل ما حدث من ظلم وبهتان وقهر ضد آل البيت الكرام وتعمد الطغاة تغييب تلك المشاهد الدامية وتلك الدسائس التي حيكت ودبرت في حق آل البيت الكرام. فكما غيبت عنا مأساة كربلاء وعمد بعدها لتغييب وقائع تاريخية خدمة لمصالح مذاهب وطوائف تحمل الحقد الدفين لآل البيت ومن سواهم من الصالحين والبسوا الحق بالباطل.*
*ونحن الأن بصدد ذكر سيرة عطرة فاحت ريحها الطيبة في أرجاء اليمن ؛ فعمتها بالخير والصلاح والهدى. إنها سيرة الإمام الهادي عليه السلام.*
*ومما يجدر بي ذكره أن هذا الجيل غير ملم بهذه السيرة وبتفاصيلها؛ حيث ظل هذا العصر يشكو من ندرة الدراسات وقلة الأبحاث في هذه السيرة النيرة التي تحتاج لدراسة مكثفة وتحتاج لتواجد المصادر المعتمدة والباحثين الأكفاء والمتخصصين ؛ وإجراء إستقصاء شامل وأطلاع واسع. ولتتضح الصورة ونقدمها كدراسات موضوعية من شأنها أن ترتقي بفكر هذا الجيل لأسمى المراتب وتربطه بتاريخه المجيد الذي يُعد منهجاً قويماً جديراً بالإقتداء به.*
*ومن خلال إستطلاعي المتواضع هذا عبر تسطري البسيطة أسلط الضوء على هذه الشخصية العظيمة ودورها الإصلاحي والفكري والجهادي في تاريخ اليمن.*
*وللتعريف عنه بنبذة مصغرة لنحلق في سمائه الرحبة و نتنسم عبرها عظمته وشأنه الرفيع.*
*فالإمام الهادي إلى الحق يحيى بالحسين عليه السلام ونسبه الشريف . هو يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن امير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهم السلام .*
*ولد بالمدينة المنورة سنة 245″ ونشأ في محيط مغمور بالهدى والإيمان والتقى والزهد والصلاح ؛ وكونها بيئة خصبة بالعلم والفصاحة والشجاعة فجعلت منه قيادياً وسياسياً محنكاً وعالماً حصيفا . وحفزه على الإقبال بشراهة على طلب العلم والعبادة ونيل المعالي.*
*له من الأولاد ثلاثة (محمد-أحمد-الحسن)*
*وقد وردت بعض الآثار فيه من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم منها :*
*قوله صلى الله عليه وعلى آله مشيراً بيده صوب اليمن : “سيخرج رجل من ولدي في هذه الجهة اسمه يحيى الهادي يحيي الله به الدين “. صدق رسول الله . وقد أحاطته من كل الجوانب معالم الطهر والنقاء وجرى حب آل البيت في عروقه حيث ورث عنهم أمجاداً تليدة ونهل من عذب علومهم وتتبع آثارهم . فتثبتت جذوره في صروح العلم وحاز على أعلى مراتبه .*
*فما كان من أهله إلا ان بايعوه بالإمامة لما لمسوه من ورعه وزهده وسعة علمه وخشيته من الله جل وعلا.وتوجهوا جميعهم صوب طبرستان ثم عادوا الى الرس.ومن بعدها جاءه وفد من علماء وقبائل اليمن يطلبونه الخروج إليهم بعد ان فسد حالهم وكثرت الفتن في محيطهم وزاد الجور عليهم .ومن بعد ان نفث علي بن الفضل القرمطي سمومه من خلال افكاره الشاذة الخارجة عن الملة .*
*ومن هنا تبدأ الرحلة الإيمانية في أرجاء اليمن رحلة مفعمة بالوعي والإيمان والعطاء والإستبسال والحكمة.*
*وأشير إلى إنه عندما يكون حديثي عن علم من أعلام الهدى ،فإنه عمل تهنأ النفس به ، وينشرح الصدر له ، ويأخذ بمجامع القلب. وتستريح له الخواطر. فتنسال كنبع دفاق كأنما يروى الجنان الخضيرة فتزداد بهاءا .ولا ينضب معينه ؛ وهكذا هي السيرة المعظمة .إنها سيرة جليلة عطرة لايجف مدادها .*
*إنه الإمام الهادي المنقذ من الضلال. من يحمل إنسانية بحجم السماء .وفضائل بحجم البحر. هو حامل لواء الدعوة وحامل راية الدين.*
*قد جاء أهل اليمن بمدرار المزن . وملأ الأرجاء نوراً وضياء. إنه شجرة مثمرة ظليلة؛ احتمى تحت ظلها كل فرد يتوق للفضيلة ويمقت الرذيلة.*
*فقد نشر نوره وهداه حول القلوب الجافة والمظلمة .فنوره الذي اقتبسه من علم الله فأحيت القلوب التي هي أشبه بصحراء قاحلة وفلاة مجدبة تفتقر للأنتعاش؛ فجاء فأحياها. لقد أحيا فيها القيم واحيا المباديء . أوليس هو العظيم بعطائه ؛والجدير بالمدح وإن قصر ثناؤه !*
*إنه من تخلق بخلق القرآن فنشر خلقه في أرض الحكمة والإيمان. ودحض الظلم والبهتان.*
*إنه من غيبته المناهج الدراسية ؛وجعلته مجرد شخصية بين غلافي كتاب وسيرة محصورة على مناطق معينة عند ذوي الدراية والفهم ممن سعدوا بعلمه وبالقيم الإسلامية التي فاحت عنه كمسك ذكي . إنه الإمام الذي نصر اهل اليمن اثناء هجرته إليها بالرغم من خذلانهم له وعودتهم للمرة الثانية طالبين صفحه وعفوه وعدله.*
*هو ليس بحاجة لتسليط الضوء لأنه غني عن التعريف بنفسه النبيلة وعلمه الوفير وحسه اللطيف وطبعه الأنف . نفذ فكره وتغلغل في النفوس المتعطشة للعلم ولمعرفة أصول الدين وأصول الفكر النقي والمهتدي بهدي الله.*
*لكننا بالحاجة للتذكير بأعلام الهدى الذين ملأوا الأرض عدلاً وإيمانا . لنمشي على دربهم ونقتفي أثارهم. فإن تحدثت عنه في السياق التاريخي فهو صفحة بيضاء ناصعة مخلدة بمجدها . وان تحدثت في السياق الفكري فهو فكر راقي وناضج قام بتأسيس دولة العدالة والمساواة . وإن قصدت السياق الإجتماعي فهو هامة نشرت قيم نبيلة تعمق الإواصر المجتمعية التي تبنى على اساسها العلاقات المتينة . لم تخلو كل أعماله وأنشطته من جهاده وفضله ومن أصالة نفسه وزكائها ورصانة فكره ورجاحة عقله. وكل ما نثره على المجتمع اليمني من خلال كرمه .*
*كانت له رؤى فكرية مستحدثة ربطها بالدين القويم. إنعكست ثقافته الدينية على الأذهان فتوسعت مداركها وتشعبت أصولها. فترجم الواقع المُعاش على حال لا يبتعد عن الرؤيا السليمة المتجذرة من كتاب الله ومن السيرة النبوية العطرة.*
*وطأ أرض اليمن لإحياء كتاب الله وسنة رسوله الكريم ولإماتة البدع والضلال . وصل صعدة الأبية سنة “280 هجرية وبعدها انتقل إلى ناحية بني حشيش قرية الشرفة حيث خلف في هاتين المنطقتين آثاراً خالدة تعكس وعي أهاليها حتى هذه اللحظة. فبرزوا كأعظم المجاهدين في اللحظة الراهنة حيث تشبعت رئاتهم بعلمه وفكره النير.*
*عاد بعد خذلانهم له إلى الحجاز . ولكن نيران الفتنة عادت تشتعل من جديد وتعسر على اهل اليمن إخمادها فلم يروا بداً من اللجوء للإمام الهادي مرة ثانية .فعادوا إليه وأعطوه بيعتهم وعبروا عن ندمهم على ما سلف وتوبتهم . ولأنه كريم النفس ، رفيع وحميد السجايا . أسرع بالقبول حرصاً منه على إرشاد الأمة ولم شملها. والعمل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.*
*فوصل صعدة عام 284. وكان قد استطاع ان يجمع شمل القبائل المتفرقة تحت راية الدين . وبايعته بقية القبائل اليمنية وجاءته وفود نجران ومن حينها جعل من صعدة مركزاً وعاصمة لنشر دعوته وجهاده . حيث اقام تعاليم الدين. داخل صنعاء واستقبله واليها ابو العتاهية . ولكن الباطل أطل برأسه من جديد في ارض الحمكة والإيمان وخاض مع الطغاة معارك حربية نصره الله فيها بالرغم من قلة أصحابه.*
*تجلت صفاته أكثر في هذه الأحداث فكان الصفح والعفو من مكارمه الأصيلة ؛ وكذلك كان ينشر القيم الإنسانية كالإهتمام بالجرحى واحترام الأسرى واللين مع المستضعفين كالمرأة والطفل والكهل ممن لايطيقون القتال. وليس كما يفعل اليوم بني سعود في مجازرهم البشعة التي ترتكب بحق الإنسانية في أرض اليمن*
*كانت تلك الثقافة العلوية التي عكست عمق معرفتة وسياسته الحكيمة التي حكم بها البلاد والعباد فصار ينشر هداه ؛ فكان صورة أخرى للإمام علي عليه السلام في بطولته وفي فصاحته وفي إقدامه وورعه وزهده. بل لقد قال عن نفسه وهو صادق فيما قال : “والله ما غاب عنكم من رسول الله إلا شخصه”.*
*كان يقاتل بسيفه ويتقدم الصفوف . وقد حاول اللئام قتله غدرا اكثر من مرة وفشلوا فذهبت رياحهم سدى . وظل يجاهد حتى أخرج القرامطة من صنعاء . وكان الى جانب بطولاته الحربية موسوعة علمية ودينية فقد ترك فرائد من الكتب العظيمة التي تعتبر مراجع يلجأ لها العلماء والمتعلمين وحكام وقضاة المحاكم في الدول المتعاقبة من بعد وفاته حتى اليوم .*
*ومن أثاره كتاب الأحكام والمنتخب والفنون شاهدة على ما أقول .وتنوعت ثقافته في المسائل الفقهية ومسائل التوحيد والتفسير والعديد من المسائل التي خدمت المجتمع الإسلامي ؛ف كان ولا زال معلماً ومرشداً ؛ وتتلمذ على يديه عدد لايستهان به من العلماء الذين تشربوا فكره وعلمه.*
*وكانت صلته بالله عميقة رغم زحمة أشغاله . فكان يقضي ليله يتعبد ويتضرع ويبتهل إلى الله جل شأنه . كان يتفقد أحوال الرعية بنفس سموحة كريمة سخية وكان يتفقد أحوال السجناء وغيرهم من ذوي الإحتياجات الخاصة بالإضافة إلى تفقد الأسواق والسلع وأسعارها.*
*وكان تاريخ هذه الشخصية العظيمة حافل بالمواقف الكبرى . فقد بنت مجتمعا متكاملا مثاليا مبنياً على أسس سليمة .*
*فهو ذا الذي غرس بصمته في أرض اليمن واحتل مكانة سامية في قلرب اهلها. لأنه سخر جهده ووقته في سبيل إصلاحها وبناء دولة إسلامية بأركان ثابتة ومتينة. وظل كذلك حتى استشهد سنة 298 هجرية مسموماً. ودفن في أرض صعدة. وقبره مشهور مزور يفوح برائحة المسك في جامعه المسمى باسمه وهو جامع الهادي الذي يعتبر أكبر جامع فى محافظة صعدة ويعتبر معلما من المعالم الإسلامية على مستوى اليمن بكله .*
*فسلام على جده واجتهاده وجهاده وعلى روحه الطاهرة.*