نبذة مختصرة عن معرفة الإمام زيد بن علي (عليهما السلام)
بقلم عدنان الكبسي (أبو محمد)
-من هو الإمام زيد؟
هو الإمام زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) واحد من عظماء أهل البيت، وواحد من أعلام الهدى الذين يجب علينا التمسك بهم والإتباع لهم والسير في طريقهم والإقتفاء بأثرهم، فهو نجم من نجوم العترة الطاهرة، الذين قال عنهم رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله): <<إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبدا كتاب الله وعترتي أهل بيتي إن اللطيف الخبير أنبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض>>.
هو نجوم وأعلام وهداة العترة الطاهرة الذين قال عنهم رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله): <<أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى>>.
هو ابن زين العابدين وسيد الساجدين الذي تقر الأمة بعظيم فضله وعلو مقامه وسناء مكانته، نهل من علوم أهل البيت على يد أبيه زين العابدين والذي رباه التربية الإيمانية، فتربى على الإيمان ونشأ على التقوى وترعرع على العلم والفضل.
ولعظمة الإمام زيد والدور الذي سيحققه، فقد روي أن النبي (صلوات الله عليه وعلى آله) نظر ذات يوم إلى زيد بن حارثة فبكى وقال: <<المقتول في الله، المصلوب من أمتي، المظلوم من أهل بيتي سمي هذا>> وأشار إلى زيد بن حارثة ثم قال: <<أدن مني يا زيد، زادك اسمك عندي حبا، فإنك سمي الحبيب من ولدي>>.
نشأ نشأة مميزة في تلك الأسرة الطاهرة المؤمنة، فتميز بتقواه وإيمانه وخشيته من الله، متميزا بفهمه الثاقب واستيعابه الكبير، فارتبط بالقرآن الكريم إرتباطا وثيقا، فما كاد يبلغ العاشرة من عمره إلا وقد حفظ القرآن، فأثر القرآن الكريم فيه أثرا كبيرا، في أخلاقه، في إهتماماته، في مواقفه، في مساره العملي بكله، حتى عرف بـ (حليف القرآن).
هذا الكتاب العظيم الذي هو كتابنا جميعا كأمة مسلمة هو الذي حرك الإمام زيد (عليه السلام) ليواجه ظلم وطغيان هشام بن عبدالملك، حيث قال: (والله ما يدعني كتاب الله أن أسكت) هذا الإنتماء الواعي للقرآن الكريم الذي ترتب عليه الإلتزام والعمل والتطبيق والذي غاب من واقع الأمة.
فالإمام زيد (عليه السلام) فيما يحمله من هم وألم وحرص على إنقاذ الأمة وما يستشعره من مسؤولية تجاه ما تعانيه الأمة من ظلم الظالمين وجور المستبدين، لدرجة عبر عنها فقال: <<والله لوددت أن يدي ملصقة بالثريا ثم أقع إلى الأرض أو حيث أقع فأتقطع قطعة قطعة وأن يصلح الله بذلك أمر أمة محمد (صلى الله عليه وعلى آله وسلم)>>.
هذا القرآن الذي حرك الإمام زيد بثورته العظيمة وخروجه على الظالمين وفيما فيه من توجيهات تحملنا مسؤولية أن نقيم العدل ونواجه الظلم والشر.
فنحن كمسلمين بقدر إهتدائنا بهذا الكتاب بقدر إلتزامنا بتوجيهاته، بقدر ما نكون مرتبطين بالقرآن الكريم بقدر ما سنتحرك في مواجهة الإستكبار العالمي وأدواته.
عاصر الإمام زيد النصف الأخير من الحكم الأموي (40-132هـ) كالتالي:
1- تولى الحكم أيام صبا زيد (عليه السلام) الوليد بن عبد الملك الذي عُرف بالترف وسفك الدماء.
2- خلفه أخاه سليمان بن عبد الملك (96-99هـ) الذي مات تخمة، فقد عرف عنه الشراهة في الطعام.
3- خلفه عمر بن عبد العزيز(99-101هـ) الذي دان بالعدل والتوحيد، وردّ مظالم بني أمية، ومنع لعن الإمام علي (عليه السلام) وأهل بيته على المنابر، وكان يستلم نصائح الإمام زيد عن طريق الرسائل حتى قال عنه بكل إجلال وتقدير: ” إن زيدًا لمن الفاضلين في قِيله ودينه “.
4- وتولى الحكم بعده يزيد بن عبد الملك (101-105هـ) الذي جعل دار الخلافة مرتعًا للّهو والسكر والطرب، وكانت له جارية اسمها “حُبَابة” قد شغفها حبًا، رماها بحبة عنب فوقعت في حلقها فشرقت بها وماتت، ونبشها بعد الدفن ولم يدفنها حتى تغير ريحها، فمات بعدها بيسير أسفًا عليها.
5- ثم تولى الحكم بعده هشام بن عبد الملك ، والإمام زيد حينذاك في الثلاثين من عمره. وقد تميّز عصره بسوء العلاقة بين الحكام والمحكومين، وكان هشام بخيلاً، حسودًا، فظًا، ظلومًا، شديد القسوة، بعيد الرحمة، طويل اللسان “، وكان يخصص يومًا في الأسبوع للسكر.
ولقد كانت حياة أمراء بني أمية مترفة طابعها المجون والانغماس في ملذات الدنيا، وتعطيل الحدود، وشرب الخمور، وسوء الأخلاق، وقتل الأبرياء ، وتعظيم السفهاء، وإنفاق أموال المسلمين في الملذات والشهوات.
فالظروف التي تحرك فيها الإمام زيد بن علي (عليهما السلام)، يقول السيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي (رضوان الله عليه): (كانت الظروف التي تحرك فيها الإمام زيد بن علي (عليه السلام) هي ظروف صعبة, ظروف كانت الدولة الأموية في أوج قوتها مسيطرة على كل العالم الإسلامي في ظل واقع قائم على الخضوع والخنوع والإستسلام، لا أحد يصدع بالحق ولا أحد يتكلم ولا أحد يعارض. يعمل الولاة الأمويون تحت قيادة الملك الأموي المستبد ما يشاؤون, ويفعلون ما يريدون, والجميع غارق في الصمت، والكل يعيشون حالة الإستسلام للأمر الواقع, فكل ما نقضوه من عرى الإسلام , وكل ما طمسوه من معالم الإسلام، الكل لا يعترض ولا يحتج وكل ما أوغلوا في عباد الله فسادا ولا ينتقد ولا يجرؤ على أن يكون له موقف, حالة الذل وحالة الخضوع والإستسلام هي الحالة المسيطرة على الأمة بكلها.
كل الفئات التي يمكن أن يراهن عليها المجتمع لأن يكون لها موقف إيجابي أو تسعى للتغيير أو تعمل لإصلاح الواقع كلها صامتة جامدة.
طبقة العلماء والمثقفون والعباد الكل صامتون والكل ساكتون وحالة رهيبة من الذل والخوف والفزع وحالة طاغية من الهيمنة الكبيرة والسيطرة التامة على واقع الأمة.
قبضة حديدية على الواقع وهيمنة واستبداد وقمع وإذلال جعل الكل في حالة إستسلام تام وعجز واضح.
لقد كانت الأوضاع في زمنه (عليه السلام) متردية إلى أبعد الحدود؛ فالفساد مستشري في كل المجالات ووصل الحال إلى درجة الإساءة إلى المقدسات وعلى رأسها القرآن الكريم ورسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) أما لعن الإمام علي وفاطمة والحسن والحسين فقد صارت سنة يجهر بها من على منابر الجمعة).
كان الإمام زيد (عليه السلام) بمدينة جده رسول الله يتحرك فيها ليستنهض الناس، مذكرا لهم بمسؤوليتهم أمام الطغيان الأموي، وهذا ما أثار قلق العرش الأموي، فسارع الطاغية هشام يسارع في طلبه، فلم يكن أمام الإمام زيد إلا المسير إلى الشام قسرا.
وعندما وصل الإمام زيد (عليه السلام) إلى دمشق عاصمة الدولة الأموية تجاهله هشام لأكثر من شهر، ولكن الإمام زيد يفرض نفسه بالحديث مع الناس فصحح الكثير من المفاهيم وأبان الكثير من الحقائق.
عن جابر الجعفي أنه قال لزيد حين أزمع على الخروج بكلام ذكره له محمد الباقر من صفة خروج الإمام زيد بن علي وأنه مقتول، فقال الإمام زيد: ” أأسكن وقد خولف كتاب الله تعالى، وتحوكم إلى الجبت والطاغوت؟ وذلك أني شهدت هشامًا ورجل عنده يسبّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم – وفي رواية أن الرجل السابّ كان يهوديًا – فقلت للسابّ له: ويلك يا كافر! أما إني لو تمكنت منك لاختطفت روحك وعجّلتك إلى النار “. فقال هشام: مه يا زيد لا تؤذي جليسنا، فثار الإمام زيد على كل هذه الأقاويل التي لا يقبلها مؤمن ولا يتصورها وقال (عليه السلام): ” فوالله لو لم يكن إلا أنا ويحيى ابني لخرجت عليه وجاهدته حتى أفنى”- أي على هشام. وقد تحمل زيد من هشام التلاعب به والعنت والحرج الشيء الكثير، وهو (عليه السلام) القائل:
” فوالله ليذهب دين القوم وما تذهب أحسابهم “.
ومن أمثال العنت والغطرسة والحسد لكل شريف أنه دخل زيد بن علي على هشام بن عبد الملك وقد جمع له هشام الشاميين فلما دخل الإمام زيد سَلَّم، فتجاهله هشام ومن في مجلسه، فانبرى قائلا: السلام عليك أيها الأحول، وإنك لجدير بهذا الاسم! فاستشاط هشام غضباً وقال: أنت زيد المؤمّل للخلافة، ما أنت والخلافة وأنت ابن أَمَة؟!
فقال: إن الأمهات لا يقعدن بالرجال عن بلوغ الغايات، ولا أعرف أحداً أحب عند اللّه من نبي بعثه وهو ابن أمَة، وهو إسماعيل بن إبراهيم، والنبوة أعظم عند اللّه من الخلافة، ثم لم يمنع ذلك أن جعله اللّه تعالى أبا للعرب، وأبا لخير النبيين محمد (صلى اللّه عليه وآله وسلم)، فلو كانت الأمهات تقصر عن بلوغ الغايات لم يبعثه اللّه نبياً، وما تقصيرك برجل جده رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وأبوه علي بن أبي طالب!!.
ودخل (عليه السلام) ذات مرة على هشام وكان قد أعلن على رؤوس الملأ في يوم حج أنه لا يقول له أحد اتق الله إلا قطع رأسه، فقال له الإمام زيد (عليه السلام) اتق اللّه يا هشام!
فلم يتمالك هشام نفسه، وقال في غلظة: ومثلك يأمر مثلي بتقوى اللّه؟!
قال زيد: إن اللّه لم يرفع أحداً فوق أن يُؤْمَر بتقوى اللّه، ولم يضع أحداً دون أن يَأمُر بتقوى اللّه! فقال هشام: هذا تحقيق لما رُفِع إليَّ عنك. ومن أمَرَك أن تضع نفسك في غير موضعها وتراها فوق مكانها ؟ فترفع على نفسك واعرف قدرك، ولا تشاور سلطانك ولا تخالف على إمامك.
فقال الإمام زيد بكل تحدٍّ: مَنْ وَضَعَ نفسه في غير موضعها أثم بربه، ومن رفع نفسه عن مكانها خسر نفسه، ومن لم يعرف قدره ضل عن سبيل ربه، ومن شاور سلطانه وخالف إمامه هلك، أفتدري يا هشام من ذلك؟ ذلك من عصى ربه، وتكبر على خالقه وتسمى باسم ليس له، وأما الذي أمرك بتقوى اللّه فقد أدى إلى اللّه النصيحة فيك، ودَلَّك على رُشْدِك!
فوثب هشام من مجلسه، وقام قائلاً: أخرجوه من مجلسي، ولا يبيتنَّ في عسكري.
فقال له زيد: (سأخرج ولن تجدني إلا حيث تكره!) وخرج الإمام زيد وهو يقول كلمته الشهيرة: “والله ما كره قوم قط حَرَّ السيوف إلا ذلوا “، وفي رواية: ” من اسْتَشْعَرَ حُبّ البقاء اسْتَدْثَرَ الذُّلَّ إلى الفناء “.
فقال هشام لأعوانه مؤكدًا الحقيقة التي لا بد منها: ألستم تزعمون أن أهل هذا البيت قد بادوا ؟ هيهات ما ذهب قوم هذا خَلَفُهم.
هذه المواقف تحمل دلالة واضحة على ثقته العالية بالله، وإجلاله لله، وارتباطه بالله سبحانه وتعالى، واحتقاره للظالمين والمتجبرين المنحرفين عن منهج الله، ولقد بلغ الحال في مرحلة ذلك الطاغية المجرم المستبد المستحكم والمتحكم على الأمة بكلها، ذلك الطاغية هشام بن عبدالملك والذي أعلن على رؤوس الملأ في يوم حج وأقسم أن لا يأمره أحد بتقوى الله وإلا ليقطعن رأسه، فيقول له الإمام زيد (عليه السلام) في مجلسه: (إتق الله يا هشام).
وهكذا انتهت إقامة الإمام في الشام ليرسله هشام بعدها إلى واليه في العراق ليتدبر أمره وكتب هشام إلى يوسف بن عمر: إذا قدم عليك زيد بن علي فاجمع بينه وبين خالد بن عبدالله القسري -وهذا خالد كان أحد عمال بني أمية المخلصين انتهى به الحال إلى أن يكون أحد ضحاياهم بالسجن ثم أخيرا بالقتل-، ولا يقيمن قبلك ساعة واحدة، فإني رأيته رجال حلو اللسان شديد البيان خليقا بتمويه الكلام، وأهل العراق أسرع شيء إلى مثله.
فلما قدم زيد الكوفة دخل إلى يوسف فقال: لم أشخصتني من عند هشام؟ قال: ذكر خالد بن عبدالله القسري أن له عندك
ستمائة ألف درهم. قال: فأحضر خالدا! فأحضره وعليه حديد ثقيل، فقال له يوسف: هذا زيد بن علي، فاذكر ما لك عنده!
فقال: والله الذي لا إله إلا هو ما لي عنده قليل ولا كثير، ولا أردتم بإحضاره إلا ظلمه.
فأقبل يوسف على زيد، وقال له: إن أمير المؤمنين أمرني أن أخرجك من الكوفة ساعة قدومك.
-المبادئ التي تحرك على أساسها الإمام زيد وهي كما تحدث بها:
وهو يوجه دعوته إلى الأمة، ويخاطب الناس قائلا: <<إنا ندعوكم أيها الناس إلى كتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) وإلى جهاد الظالمين، والدفع عن
المستضعفين وقسْم الفيء بين أهله، ورد المظالم، ونصرنا أهل البيت على من نصب لنا الحرب>>.
ثم يستنهض العلماء والأمة فيقول: <<فسارعوا عباد الله إلى دعوة الله، ولا تنكلوا عن الحق، فبالحق يُكبت عدوكم، وتُمنع حريمكم وتَأمن ساحتكم.
وذلك أننا ننزع الجائرين عن الجنود والخزائن والمدائن والفيء والغنائم ونثبّت الأمين المؤتمن، غير الراشي والمرتشي الناقض للعهد؛ فإن نظهر فهذا عهدنا، وإن مستشهد فقد نصحنا لربنا وأدينا الحق إليه من أنفسنا، فالجنة مثوانا ومنقلبنا، فأي هذا يكره المؤمن وفي أي هذا يرهب المسلم؟.
تحرك الإمام زيد (عليه السلام) من خلال القرآن الكريم، يواجه بالحق في هذا الكتاب الباطل والضلال، ويواجه الأفكار المنحرفة المضللة.
فالإمام زيد بن علي (عليهما السلام) علم للأمة وقائد وهادي للأمة كل الأمة، تحرك بدافع المسؤولية صادعا بكلمة الحق في وجه السلطان الجائر، محييا لمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي لطالما غاب عن كثير من أبناء المسلمين.
وقد وضح الإمام زيد أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في رسالته الشهيرة إلى علماء الأمة فقال (عليه السلام): <<واعلموا أن فريضة الله تعالى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا أقيمت له استقامت الفرائض بأسرها هينها وشديدها، وذلك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الدعاء إلى دين الإسلام والإخراج من الظلمة، ورد المظالم وقسمة الفيء والغنائم على منازلها، وأخذ الصدقات ووضعها في مواضعها، وإقامة الحدود، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهد، والإحسان، واجتناب المحارم كل هذا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر>>.
ولم ينسى الإمام زيد (عليه السلام) السبب الرئيسي في تصلب شرايين الأمة ومرضى القلوب، والذين هم السبب الرئيسي في ضلال الأمة وانحرافها وانبطاحها تحت أقدام الطغاة وهم مشائخ الدينار وعباد الدرهم علماء السوء الذين يقفون بجانب سلاطين الجور يعينونهم ويثبتون عروشهم والمدجنين للأمة بأن تطيع الظالمين وتقدس المجرمين وتدجن الأمة لأن تتولى ولاة أمرها وإن قصم ظهرها وأخذ مالها فنادى أولئك العلماء في رسالته الشهيرة قائلا: << يا علماء السوء أنتم أعظم الخلق مصيبة، وأشدهم عقوبة، إن كنتم تعقلون، ذلك بأن اللّه قد احتج عليكم بما استحفظكم؛ إذ جعل الأمور ترد إليكم وتصدر عنكم، الأحكام من قِبَلِكم تُلْتَمَس، والسُّنن من جِهَتِكم تحتبر، يقول المتبعون لكم: أنتم حجتنا بيننا وبين ربنا. فبأي منزلة نزلتم من العباد هذا المنزلة؟
فوالذي نفس (زيد بن علي) بيده لو بينتم للناس ما تعلمون ودعوتموهم إلى الحق الذي تعرفون، لتَضَعْضَعَ بُنْيَان الجبَّارين، ولتهَدَّم أساس الظالمين، ولكنكم اشتريتم بآيات اللّه ثمناً قليلا، وادْهَنتم في دينه، وفارقتم كتابه>>.
وسنرفق رسالة الإمام زيد بن علي (عليهما السلام) إلى علماء الأمة كاملة في نهاية هذا المنشور إن شاء الله تعالى.
ومن ثم يحدد الإمام زيد موعد الثورة في الواحد من شهر صفر، ولكن نتيجة العمل الإستخباراتي الأموي اكتشفت خطة الإمام زيد، وبات الجيش الأموي يبحثون عنه وكانوا قريبين من اكتشاف مكانه، فاضطر أن يخرج ليلة الأربعاء في الثاني والعشرين من شهر محرم قبل الموعد في الكوفة، رافعا شعار جده رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) في غزوة بدر الكبرى (يا منصور أمت)، ولم يوافيه إلا مائتان وثمانية عشر رجلا، وكان قد بايعه من الكوفة وحدها ما يقارب الخمسة عشر ألف رجل.
في تلك الصبيحة أمر يوسف بن عمر الحكم بن الصلت بجمع أهل الكوفة في المسجد ومنع التجول وحمل السلاح وأن ينادي المنادي: أيما رجل من العرب والموالي أدركناه في رحبة المسجد فقد برئت منه الذمة؛ ائتوا المسجد الأعظم.
ولاحظ الإمام زيد (عليه السلام) حالة التخاذل الكبيرة في واقع الأمة، ِ وقَّلة المستجيبين، ومحدودية الإمكانيات، َّ وقلة الأنصار، وقال لأحد أنصاره الأوفياء (نصر بن خزيمة) قال له الإمام زيد (عليه السلام) : <<يا نصر؛ أتخاف أهل الكوفة أن يكونوا فعلوها حسينية>> فيفعلوا معه ما فعلوا مع الحسين من تخاذل قال: (جِعلت فداك أما أنا فوالله لأضربن بسيفي بين يديك حتى أموت).
ثم قال (عليه السلام): << “سبحان الله! فأين الناس ؟ ” قيل: هم محصورون في المسجد. فقال:” لا والله، ما هذا لمن بايعنا بعذر”.
فتحرك الإمام زيد(عليه السلام) بقلة الناصر، بالفئة القليلة من المؤمنين الصادقين الذين تحركوا معه، تحرك ببطولة وفداء كبير للإسلام واستبسال قل نظيره، بتلك القلة القليلة واجه اثنا عشر ألف مقاتل من الجيش الأموي، وهزمهم من سكة إلى سكة، ومن شارع إلى شارع، وتقدم ليدخل إلى داخل الكوفة، وقتل في اليوم الأول من الجيش المعادي أكثر من ألفي قتيل، وتقدم الإمام زيد (عليه السلام) وهو يقاتل بتلك الفئة المؤمنة القليلة الصادقة الصابرة الثابتة أشد قتال حتى تمكن من الوصول إلى مسجد الكوفة.
فقام نصر ابن خزيمة ينادي الناس وهو يفتح لهم الأبواب: ” يا أهل الكوفة! أخرجوا من الذل إلى العز ومن الضلال إلى الهدى، أخرجوا إلى خير الدنيا والآخرة فإنكم لستم على واحد منهما “.، إلا أنهم لم يحركوا ساكنًا، ومكثوا في المسجد راغبين في أن يحبسوا أنفسهم حتى بعدما فتحت لهم الأبواب.
مع احتدام المعركة وشدة المواجهة إلا أن الإمام زيد كان حريصا على سلامة المقصد وصدق النية التي ملؤها اليقين قائلاً:
” عباد اللّه ! لا تقاتلوا عدوكم على الشك فتضلوا عن سبيل اللّه، ولكن البصيرة .. البصيرة ثم القتال، فإن اللّه يجازي عن اليقين أفضل جزاء يجزي به على حق، إنه من قتل نفسًا يشك في ضلالتها كمن قتل نفسًا بغير حق. عباد اللّه البصيرة .. البصيرة “.
ولما خفقت الراية على رأسه قال (عليه السلام) متوجها إلى الله العظيم <<اللهم لك خرجت، وإياك أردت، ورضوانك طلبت، ولعدوك نصبت، فانتصر لنفسك ولدينك ولكتابك ولنبيك ولأهل بيت نبيك ولأوليائك من المؤمنين، اللهم هذا الجهد مني والله المستعان>>.
ثم رفع يديه إلى السماء فقال: ” الحمد لله الذي أكمل لي ديني، والله ما يسرني أني لقيت محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم ولم آمر في أمته بالمعروف ولم أنههم عن المنكر. والله ما أبالي إذا أقمت كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن أُجِّجت لي نار ثم قُذِفت فيها ثم صرت بعد ذلك إلى رحمة الله تعالى. والله لا ينصرني أحد إلا كان في الرفيق الأعلى مع محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين. ويحكم! أما ترون هذا القرآن بين أظهركم جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونحن بنوه ؟
فحارب الإمام زيد وأصحابه الأمويين بكل استبسال وتفان مع قلة الناصر وقلة العدة وأبلوا بلاء حسنًا، فخاف جيش العدو واختبأ خلف الجدران يمطر جيش زيد (عليه السلام) بوابل من الأسهم، حتى سُمِع صوتًا ينادي: الشهادة… الشهادة، الحمد لله الذي رزقنيها. كان ذلك الإمام زيد يصيح بعد أن أصيب في ثاني ليلة من بدء الثورة بسهم في جانب من جبهته اليسرى، فنزل السهم في الدماغ. فجاء يحيى بن زيد إلى أبيه وهو يبكي، وأخذ يمسح الدم عن وجه أبيه ثم قال له: أبشر يا ابن رسول الله، ترد على رسول الله وعلي وفاطمة وخديجة والحسن والحسين وهم عنك راضون. فقال (عليه السلام): صدقت يا بني، فأي شيء تريد أن تصنع؟ قال يحيى: أجاهدهم إلا أن لا أجد الناصر. فقال زيد: نعم يا بني جاهدهم، فوالله إنك لعلى الحق وإنهم لعلى الباطل، وإن قتلاك في الجنة وقتلاهم في النار وحين جاء الطبيب لينتزع السهم أخذ الطبيب الكلبتين فانتزعه، واستشهد صلوات الله عليه من ساعته في الخامس والعشرين من شهر محرم 122هـ.
… وهكذا رحل الإمام زيد (عليه السلام) – وهو لا يتجاوز الثانية والأربعين من عمره عام 122هـ على أغلب الروايات – فائزًا بالشهادة وقد أراح ضميره حين رفع راية الجهاد عالية بعد أن صبغها دم الشهداء ليصدق قول الله تعالى: (( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)).
ثم دفن جثمانه الطاهر بشكل سري، فتساءل القوم عن مكان دفنه ومواراته، وارتأوا دفنه في العباسية وإجراء الماء عليه. ولما كان معهم عبد سندي أفشى سر قبر زيد (عليه السلام) إلى الحكم بن الصلت ودلّهم على الموضع بعد أن أُعلِن في الشوارع عن جائزة مغرية لمن يدل على موضع دفنه، فما كان منهم إلا أن استخرجوه على بعير قد شُدّ بالحبال، فألقي جسده الشريف من البعير على باب القصر فخرّ كأنه جبل.
ثم قطعوا رأسه الشريف ليطوفوا به في بلدان العالم الإسلامي حتى انتهوا به إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وهناك ضجّت المدينة بالبكاء من دور بني هاشم، وأُمر أهل المدينة أن يتبرؤوا من علي وزيد بن علي عليهما السلام، وتعاملوا بكل وحشية؛ الوحشية التي تجِّسد فيها سوء ما عليه المجرمون، ما عليه الظالمون والمفسدون والطغاة، كيف ممارساتهم، معاملاتهم، تصرفاتهم، وحشيتهم، إجرامهم، انعدام حتى الأخلاق الإنسانية لديهم، ثم أمر به الطاغية هشام بن عبدالملك فصلب بالكناسة(مزبلة الكوفة)، ومكث مصلوبًا عاريًا لأربع سنوات.
وخلال صلبه حصلت الآيات الكثيرة من ضمنها أنه خلال صلبه ير أحد له عورة فقد كانت العنكبوت تنسج خيوطها لتستر عورته فكانوا يزيحوا خيوط العنكبوت عن عورته، فاسترسل جلد من بطنه ومن خلفه حتى ستر عورته.
وفي أيام الوليد بن يزيد يصدر بأمر ليوسف بن عمر بإنزاله وفصل رأسه وحرقه وسحقه وذر جزء منه في الفرات وجزء جعلوه في مهب الريح لكي يضيع.
فصلوات الله عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيا بين يدي الله مع آبائه وأجداده الكرام.
وهذه رسالة الإمام زيد بن علي (عليهما السلام)إلى علماء الأمة
رسالة الإمام زيد الى علماء الأمة.
نص الرسالة التي بعث بها الإمام زيد ع الى علماء الأمه:-
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
إلى علماء الأمَّةِ الذين وجبت للَّه عليهم الحجة، مِن زيد بن علي بن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم.
سلام على أهل وَلاَية اللّه وحِزبِه.
ثم إني أوصيكم مَعْشَر العلماء بحظِّكم من اللّه في تقواه وطاعته، وأن لا تبيعوه بالـمَكْس([1]) من الثَّمَن، والحقير من البَذل، واليسير من العِوَض، فإن كل شيء آثرتموه وعَمِلتم له من الدُّنيا ليس بخَلَفٍ ممازيَّن اللّه به العلماء من عباده الحافظين لرعاية ما استرعـاهم واستحفظهم من أمره ونهيه، ذلك بأن العاقبة للمتقين، والحَسْرَةَ والنَّدامة والويل الدائم للجائرين الفاجرين.
فتفكّروا عباد اللّه واعتبروا، وانظروا وتَدَبَّروا وازدجروا بما وعظ اللّه به هذه الأمَّة من سوء ثنائه على الأحْبَار والرُّهبان.
إذ يقول: {لَوْلا يَنْهَاهُمْ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمْ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمْ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة: 63].
وإنما عاب ذلك عليهم بأنهم كانوا يشاهدون الظَّلمة الذين كانوا بين ظهرانيهم يأمرون بالمنكر، ويعملون الفساد، فلا ينهونهم عن ذلك، ويرون حق اللّه مُضَيَّعاً، ومالَ اللّه دُولة يؤكل بينهم ظلماً، ودولة بين الأغنياء، فلا يَمْنعون من ذلك، رغبةً فيما عندهم من العَرَض الآفل، والمنزل الزائل، ومُدَاهنة منهم على أنفسهم.
وقد قال اللّه عز وجل لكم: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ [لَيَأْكُلُونَ أَمْـوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34]،] كيما تحذروا.
وإذا رأيتم العَالِم بهذه الحالة والمَنْزِلة أنزلتموه منزلة من عَاثَ في أموال الناس بالْمُصَانَعة ([2])، والمُدَاهنة، والمُضَارعة ([3]) لِظَلَمَهِ أهل زمانهم، وأكابر قومهم، فلم ينهوهم عن منكر فعلوه؛ رغبة فيما كانوا ينالون من السُّحْت ([4]) بالسكوت عنهم.
وكان صُدُودُهم عن سبيل اللّه بالإتِّباع لهم، والإغترار بإدِّهَانهم، ومقاربتهم الجائرين الظالمين المفسدين في البلاد؛ ذلك بأن أتباع العلماء يختارون لأنفسهم ما اختار علمـاؤهم، فاحذروا علماء السوء الذين سلكوا سبيل من ذَمَّ اللّه وباعوا طاعة اللّه الجائرين ([5]).
إن اللّه عز وجل قال في كتابه: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ [الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَـدَاءَ فَلَا تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِي وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ}[المائدة: 44]].
فعاب علماءَ التوراةِ والإنجيلِ بتركهم ما استحفظهم من كتابه ـ وجَعَلَهم عليه شهداء ـ خَشْيَة الناس، ومواتاة([6]) للظالمين، ورضىً منهم بأعمال المفسدين. فلم يؤثروا اللّه بالخشية فَسَخِط اللّه عليهم لَمَّا اشتروا بآياته ثمناً قليلاً، ومتاعاً من الدنيا زائلاً.
والقليل عند اللّه الدنيا وما فيها من غَضَارَتِهَا ([7]) وعيشتها ونعيمها وبهجتها؛ ذلك بأن اللّه هو عَلاَّم الغيوب، قد عَلِمَ بأن ركوبَ معصيَتِهِ، وركوب طاعَتِهِ، والمداهنة للظلمة في أمره ونهيه، إنما يلحق بالعلماء للرَّهْبة والرَّغبة من عند غير اللّه، لأنهم علماء بالله، وبكتابه، وبسُنَّة نبيه صلى اللّه عليه وآله وسلم.
ولعَمْري لو لم يكن نال علماءَ الأزمنةِ من ظلمتها وأكابرها ومفسديها شدةٌ وغلظة وعداوة ما وَصَّاهم اللّه تعالى وحذّرهم، ذلك أنهم ما ينالون ما عند اللّه بالهوينا، ولا يخلدون في جنته بالشهوات.
فكره اللّه تعالى للعلماء ـ المُسْتَحْفِظِين كُتُبَه وسُنَّته وأحكامه ـ ترك ما اسْتَحْفَظَهم، رغبةً في ثواب مَنْ دُونَه، ورهبةَ عقوبةِ غيره.
وقد مَيَّزَكم اللّه تعالى حَقَّ تمييز، ووسَمَكم سِمَةً لا تخفى على ذي لُبّ، وذلك حين قال لكـم: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 71]].
فبدأ بفضيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم بفضيلة الآمرين بالمعروف والنَّاهين عن المنكر عنده، وبمنزلة القائمين بذلك من عباده.
ولعَمْرِي لقد استفتح الآية في نَعْت المؤمنين بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فاعتبروا عباد اللّه وانتفعوا بالموعظة.
وقال تعالى في الآخرين: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ}[التوبة:67].
فلعَمْرِي لقد استفتح الآية في ذمهم بأمرهم بالمنكر ونهيهم عن المعروف، فاعتبروا عباد اللّه وانتفعوا، واعلموا أن فريضة اللّه تعالى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذا أقيمت له استقامت الفرائض بأسرها، هَيِّنُها وشَدِيْدُها، وذلك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو: الدعاء إلى الإسلام([8])، والإخراج من الظُّلْمَة، ورَدّ الظالم، وقِسْمَةِ الفَيء والغنائم على منازلها، وأخذ الصَّدقات ووضعها في مواضعها، وإقامة الحدود، وصِلَةِ الأرحام، والوفاء بالعهد، والإحسان، واجتناب المحَارم، كل هذا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يقول اللّه تعالى لكم: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة:2]، فقد ثَبَتَ فرضُ اللّه تعالى، فاذكروا عهد اللّه الذي عاهدتموه وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [المائدة:7].
عباد اللّه، فإنما تصلح الأمورُ على أيدى العلماء، وتفسد بهم إذا باعوا أمر اللّه تعالى ونهيه بمعاونـة الظالمين الجائرين، فكذلك الجهال والسفهاء إذا كانت الأمور في أيديهم، لم يستطيعوا إلا بالجهـل والسَّفَه إقامتها، فحينئذ تَصْرُخُ المواريث، وتضج الأحكام، ويفتضح المسلمون([9]).
وأنتم أيها العلماء عصابةٌ مشهورة، وبالورع مذكورة، وإلى عبادة اللّه منسوبة، وبدراسة القرآن معروفـةٌ، ولكم في أعين الناس مهابةٌ، وفي المدائن والأسواق مكرمةٌ، يهابكم الشَّريف، ويكرمكم الضَّعيف، ويرهبكم من لا فضل لكم عليه، يُبدَأ بكم عند الدُعْوَةِ والتُحْفَة ([10])، ويشار إليكم في المَجَالس، وتشفعون في الحاجات إذا امتَنَعَت على الطَّالبين، وآثارُكم مُتَّبَعَةٌ، وطُرُقُكُم تُسْلَك، كل ذلك لما يرجوه عندكم مَنْ هُوَ دونكم مِنْ النَّجاة في عرفان حق اللّه تعالى، فلا تكونوا عند إيثار([11]) حق اللّه تعالى غافلين، ولأمره مضيِّعين، فتكونوا كالأطباء الذين أخذوا ثَمَنَ الدَّواء واعْطَبوا المرضى، وكرُعَاةٍ استوفوا الأجر وضلوا عن المرعى، وكحراس مدينة أسلموها إلى الأعداء، هذا مثل علماء السوء.
لا مالاً تبذلونه لله تعالى، ولا نفوساً تُخاطرون بها في جَنْبِ اللّه تعالى، ولا داراً عطلتموها، ولا زوجة فارقتموها، ولا عشيرة عاديتموها.
فلا تتمنوا ما عند اللّه تعالى وقد خالفتموه، فترون أنكم تَسْعَوْن في النُّور، وتَتَلَقَّاكم الملائكة بالبشارة من اللّه عز وجل؟ كيف تطمعون في السَّلامة يوم الطامَّـة؟! وقد أخْدَجْتُم الأمانة ([12])، وفارقتم العِلْمَ، وأدْهَنتم في الدين، وقد رأيتم عهـد اللّه منقوضاً، ودينه مبغوضاً، وأنتم لا تفزعون، ومن اللّه لا ترهبون، فلو صبرتم على الأذى، وتحملتم المؤنة في جنب اللّه لكانت أمور اللّه صادرة عنكم، وواردة إليكم.
عباد اللّه لا تُمَكِّنوا الظالمين من قِيَادكم ([13]) بالطمع فيما بأيديهم من حُطامِ الدنيا الزَّائل، وتراثها الآفل، فتخسروا حظكم من اللّه عز وجل.
عباد اللّه استقدموا إلى الموت بالوثيقة في الدين، والإعتصام بالكتاب المتين، ولا تعجبوا بالحياة الفانية، فما عند اللّه هو خير لكم، وإن الآخرة هي دار القرار.
عباد اللّه انْدُبُوا الإيمان، ونوحوا على القرآن، فوالذي نفس (زيد بن علي) بيده لن تنالوا خيراً لا يناله أهلُ بيتِ نبيكم صلى اللّه عليه وآله وسلم، ولا أصبتم فضلاً إلا أصابوه فأصبتم فضله.
خطاب لعلماء السوء
فيا علماء السوء أكببتم على الدنيا وإنها لناهية لكم عنها، ومحذرة لكم منها، نَصَحَتْ لكم الدنيا بتصرفها فاسْتَغْشَشْتُمُوها، وتَقَبَّحَتْ لكم الدنيا فاستحسنتمُوها، وصَدَقَتْكم عن نفسها فكذَّبتمُوها.
فيا علماء السوء، هذا مِهَادكم الذي مَهَدْتمُوه للظالمين، وهذا أمانكم الذي ائتُمنتُموه ([14]) للخائنين، وهذه شهادتكم للمبطلين، فأنتم معهم في النار غداً خالدون: {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} [غافر:75]، فلو كنتم سَلَّمتم إلي أهل الحق حقهم، وأقْرَرْتم لأهل الفضل بفضلهم، لكنتم أولياء اللّه، ولكنتم من العلماء به حقاً الذين امتدحهم اللّه عز وجل في كتابه بالخشية منه.
فلا أنتم عَلَّمتم الجاهل، ولا أنتم أرشدتم الضَّال، ولا أنتم في خلاص الضعفاء تعملون، ولا بشرط اللّه عليكم تقومون، ولا في فِكَاكِ رقابكم، ولا السلبَ إلا سلبكم.
يا علماء السوء اعتبروا حالكم، وتفكروا في أمركم، وستذكرون ما أقول لكم.
يا علماء السوء إنما أمنتم عند الجبَّارين بالإدْهَان، وفزتم بما في أيديكم بالمُقَارَبَة، وقربتم منهـم بالْمُصَانَعَة([15])، قد أبحتم الدين، وعطلتم القرآن، فعاد عملكم حجة للَّه عليكم، وستعلمون إذا حَشْرَجَ الصَّدر، وجاءت الطامة، ونزلت الدَّاهية.
يا علماء السوء أنتم أعظم الخلق مصيبة، وأشدهم عقوبة، إن كنتم تعقلون، ذلك بأن اللّه قد احتج عليكم بما استحفظكم؛ إذ جعل الأمور ترد إليكم وتصدر عنكم، الأحكام من قِبَلِكم تُلْتَمَس، والسُّنن من جِهَتِكم تحتبر، يقول المتبعون لكم: أنتم حجتنا بيننا وبين ربنا. فبأي منزلة نزلتم من العباد هذا المنزلة؟
فوالذي نفس (زيد بن علي) بيده لو بينتم للناس ما تعلمون ودعوتموهم إلى الحق الذي تعرفون، لتَضَعْضَعَ بُنْيَان الجبَّارين، ولتهَدَّم أساس الظالمين، ولكنكم اشتريتم بآيات اللّه ثمناً قليلا، وادْهَنتم في دينه، وفارقتم كتابه.
هذا ما أخذ اللّه عليكم من العهود والمواثيق، كي تتعاونوا على البر والتقوى، ولاتعاونوا على الإثم والعدوان، فأمْكَنتم الظلمة من الظلم، وزيَّنتم لهم الجَورَ، وشَدَدْتم لهم ملكهم بالمعاونة والمقارنة، فهذا حالكم.
فيا علماء السوء محوتم كتاب اللّه محواً، وضربتم وجه الدين ضرباً، فَنَدَّ ([16]) والله نَدِيْدَ البَعِيْرِ الشـارد، هرباً منكم، فبسوء صنيعكم سُفِكَت دماء القائمين بدعوة الحق من ذرية النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، ورُفِعَت رؤوسهم فوق الأسنة، وصُفِّدوا في الحديد، وخَلَصَ إليهم الذُّل، واستشعروا الكَرْب، وتَسَرْبَلوا الأحزان، يتنفسون الصُّعَـداء ([17])، ويتشاكون الجهد؛ فهذا ما قدمتم لأنفسكم، وهذا ما حملتموه على ظهـوركم، فالله المستعان، وهو الحكم بيننا وبينكم، يقضي بالحق وهو خير الفاصلين.
وقد كتبت إليكم كتاباً بالذي أريد من القيام به فيكم، وهو: العمل بكتاب اللّه، وإحياء سنة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، فبالكتاب قَوَام الإيمان، وبالسُّنَّة يثبت الدين، وإنما البدع أكاذيب تُخْتَرَع، وأهواء تُتَّبَع، يتولى فيها وعليها رجالٌ رجالاً صدُّوهم عن دين اللّه، وذادوهم عن صراطه، فإذا غَيَّرها المؤمن، ونهى عنها المُوَحِّد، قال المفسدون: جاءنا هذا يدعونا إلى بدعة!!
وأيم اللّه ماالبدعة إلا الذي أحدث الجائرون، ولا الفساد إلا الذي حكم به الظالمون، وقد دعوتكم إلى الكتاب فأجيبوا داعي اللّه وانصروه.
فوالذي بأذنه دَعَوْتُكم، وبأمره نصحتُ لكم، ما ألتمس أَثَرَةً على مؤمن، ولا ظلماً لِمُعَاهِد، ولوددت أني قد حميتكم مَرَاتع ([18]) الهَلَكَة، وهديتكم من الضلالة، ولو كنت أوْقِدُ ناراً فأقذفُ بنفسي فيها، لا يقربني ذلك من سخط اللّه، زهداً في هذه الحياة الدنيا، ورغبة مني في نجاتكم، وخلاصكم، فإن أجبتمونا إلى دعوتنا كنتم السعداء والمَوْفُوْرين حظاً ونصيباً.
عباد اللّه انصحوا داعي الحق، وانصروه إذا قد دعاكم لما يحييكم، ذلك بأن الكتاب يدعو إلى اللّه وإلى العدل والمعروف، ويزجر عن المنكر.
فقد نَظرنا لكم وأردنا صلاحكم، ونحن أولى الناس بكم، رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم جَدُّنا، والسابقُ إليه المؤمن به أبونا، وبنته سيدة النِّسوان أمُّنا، فمن نَزَل منكم منزلتنا؟ فسارعوا عباد اللّه إلى دعوة اللّه، ولا تنكلوا عن الحق، فبالحق يُكْبَتُ([19]) عَدُوُّكم، وتُمْنَع حريمكم، وتأمن ساحتكم.
وذلك أنا ننزع الجائرين عن الجنود، والخزائن، والمدائن، والفيء، والغنائم، ونُثْبِتُ الأمين المؤتمن، غير الرَّاشي والمرتشي الناقض للعهد؛ فإن نَظْهَر فهذا عهدنا، وإن نستشهد فقد نصحنا لربنا، وأدينا الحق إليه من أنفسنا، فالجنة مثوانا ومنقلبنا، فأي هذا يكره المؤمن، وفي أي هذا يرْهَب المسلم؟ وقد قال اللّه عز وجل لنبيه صلى اللّه عليه وآله وسلم: {وَلَا تُجَادِلْ عَنْ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} [النساء: 107].
وإذا بدأت الخيانة، وخُرِبَت الأمانة، وعُمِل بالجور، فقد افتضح الوالي. فكيف يكون إماماً على المؤمنين من هذا نعته وهذه صفته؟!
اللهم قد طلبنا المعذرة إليك، وقد عَرَّفْتَنَا أنك لا تُصلح عَمَلَ المفسدين، فأنت اللهم ولينا، والحاكم فيما بيننا وبين قومنا بالحق.
هذا مانقول وهذا ما ندعوا إليه، فمن أجابنا إلى الحق فأنت تُثِيْبه وتجازيه، ومن أبى إلا عُتواً وعناداً فأنت تعاقبه على عتوه وعناده.
فالله اللّه عباد اللّه أجيبوا إلى كتاب اللّه، وسارعوا إليه، واتخذوه حَكَماً فيما شَجَر بينكم، وعدلاً فيما فيه اختلفنا، وإماماً فيما فيه تنازعنا، فإنا به راضون، وإليه منتهون، ولما فيه مُسْلِمون لنا وعلينا، لانريد بذلك سلطاناً في الدنيا، إلا سلطانك، ولا نلتمس بذلك أثرة على مؤمن، ولا مؤمنة، ولا حُرٍّ، ولا عبد.
عباد اللّه فأجيبونا إجابة حَسَنة تكون لكم البشرى بقول اللّه عز وجل في كتابه: {فَبَشِّرْ عِبَادِي(17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18]، ويقول: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ}[فصلت: 33].
عباد اللّه فاسرعوا بالإنابة وابذلوا النصيحة، فنحن أعلم الأمة بالله، وأوعى الخلق للحكمة، وعلينا نزل (القرآن)، وفينا كان يهبط (جبريل) عليه السلام، ومِنْ عندنا اقتبس الخير، فَمَنْ عَلِمَ خيراً فمنا اقتبسه، ومن قال خيراً فنحن أصله، ونحن أهل المعروف، ونحن النَّاهون عن المنكر، ونحن الحافظون لحدود اللّه.
عباد اللّه فأعينونا على من استعبد أمتنا، وأخرب أمانتنا، وعَطَّل كتابنا، وتَشَرَّف بفضل شرفنا، وقد وثقنا من نفوسنا بالمضي على أمورنا، والجهاد في سبيل خالقنا، وشريعة نبينا صلى اللّه عليه وآله وسلم، صابرين على الحق، لا نجزع من نائبة مَنْ ظَلَمَنا ، ولا نَرْهَبُ الموتَ إذا سَلِمَ لنا دِيْنُنَا ، فتعاونوا تنصروا، يقول اللّه عز وجل في كتابه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]، ويقول اللّه عز وجل: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ(40)الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 40 ـ 41].
عباد اللّه فالتمكِين قد ثبت بإثبات الشريعة، وبإكمال الدين بقول اللّه عز وجل: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ}[الذاريات: 54]، وقال اللّه عز وجل فيما احتج به عليكم : {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا}[المائدة: 3].
عباد اللّه فقد أكمل اللّه تعالى الدِّين، وأتم النعمة، فلا تنقصوا دين اللّه من كَمَاله، ولا تُبَدِّلوا نعمة اللّه كفراً فيحل بكم بأسه وعقابه.
عباد اللّه إن الظالمين قد استحلوا دماءنا، وأخافونا في ديارنا، وقد اتخذوا خُذْلانَكم حجة علينا فيما كرهوه من دعوتنا، وفيما سفهوه من حقنا، وفيما أنكروه من فضلنا.
عباد الله، فأنتم شركاؤهم في دمائنا، وأعوانهم في ظلمنا، فكلُّ مالٍ للَّه أنفقوه، وكل جمعٍ جمعوه، وكل سيف شَحَذُوه ([20]) وكل عدل تركوه، وكل جور رَكِبوه، وكل ذمة للَّه تعالى أخفروها ([21])، وكل مسلم أذلوه، وكل كتاب نَبَذوه، وكل حكم للَّه تعالى عطّلـوه، وكل عهد للَّه نقضوه فأنتم المعينون لهم على ذ لك بالسكوت عن نهيهم عن السوء.
عباد اللّه إن الأحبار والرُّهبان من كل أمة مسؤلون عما استحفظوا عليه، فأعِدُّوا جواباً للَّه عز وجل على سؤاله.
اللهم إني أسألك بنبينا محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم تثبيتاً منك على الحق الذي ندعوا إليه وأنت الشهيد فيما بيننا، الفاصل بالحق فيما فيه اختلفنا، ولا تستوي الحسنة ولا السيئة.
والسلام على من أجاب الحق، وكان عونا من أعوانه الدالين عليه.
(تمت رسالة الإمام زيد إلى علماء الأمة بحمدالله)