الخبر وما وراء الخبر

خطباء ومشائخ عدن… من المنابر إلى المقابر!!

93

يستمر مسلسل الاغتيالات الممنهجة والمنظمة في مدينة عدن الجنوبية على مرأى ومسمع من عشرات المكونات الداخلية والخارجية التي تكدست في مؤسساتها بداعي الحماية والتحرير، مشهد يتكرر كل يوم حتى صار روتيناً رغم فداحته، ولم يجرؤ أحد على فتح ملفاته أو التنقيب عن حيثياته في دهاليز الصراع الخفي الذي تفرضه أجندات الإمارات والسعودية، ومن ورائهما ديكورات جنوبية تتولى التنفيذ بيمناها وتستلم بالأخرى ثمن الاستغلال والاسترزاق، والأدهى أن يحدث كل هذا الجرم والانفلات في مدينة يعتبرها تحالف العدوان العاصمة المؤقتة ليمن جديد يشرف على صناعته بكلتا يديه، ويرى فيها النموذج الحقيقي الذي يختزل فيه عملياً الهدف الأسمى من عاصفة حزمه، والصورة الأوضح لتقاسيم إعادة الأمل لثغرها الباسم وتجاعيد وجهها المتهالك، أو بمعنى أصح النموذج الكامل لما ينوي فعله هذا العدوان في باقي المحافظات التي يسابق الوقت ويكابد الويلات لاحتلالها وتحرير أهلها.

وبالرغم من أن كل عمليات الاغتيالات تقيّد ضد مجهول، إلا أن هذا “المجهول” معلوم لأسر الضحايا وذويهم الذين اكتفوا بالتنديد والتغريد في وسائل التواصل الاجتماعي، وتوجيه أصابع الاتهام لأبوظبي وسلطاتها بدليل أنه عند اغتيال أول رجل دين في بداية مرحلة التصفية لعلماء الجنوب سارع العديد من المواطنين لملاحقة الجناة والقبض عليهم وتسليمهم إلى مقر القوات الإماراتية في البريقة، لكنهم فوجئوا بالإفراج عنهم بعد ساعات.

في غير ذي بعيد من مدينة عدن شهدت محافظتا شبوة والمهرة اعتصامات شعبية متصاعدة للمطالبة بخروج الاحتلال السعودي والإماراتي وتسليم المحافظتين لأهلها على الرغم من أنهما لا تقبعان تحت ويلات كتلك التي تعيشها مدينة عدن التي يجثم عليها الخنوع، ولم تحظَ بصحوة مشابهة لسكانها للمطالبة بوقف عمليات الاغتيال التي يتعرض لها خطباء وأئمة مساجدها، أو وقف عمليات الإخفاء القسرية ناهيك عن صروف التعذيب في غياهب السجون، أو لنقل المطالبة بتحسين الخدمات الأساسية التي تتطلبها حياتهم بدء بالمأكل والمشرب، مروراً بصرف المرتبات وانتهاء بخفض موجة الأسعار التي تعصف بالاقتصاد ويتكبّد تبعاتها المواطن اليمني شمالاً وجنوباً.

وبالنظر إلى ما يحدث اليوم في عدن وأسباب عودة العنف إلى واجهتها نجد خيوط اللعبة متشابكة، وجميعها مؤشرات تؤكد الرغبة الإماراتية في التخلص من كلٍ من حزب الإصلاح وقيادات ما يسمى بالشرعية في عدن، وتأجيج الصراع الإيديولوجي والمناطقي على حدٍ سواء، إذ وجد الإصلاح نفسه في عزلة عن تطورات الأحداث المتسارعة التي تستهدفه شكلاً ومضموناً، فالتقارب الإماراتي الأخير مع حكومة الرياض في عدن يقضي بفك الشراكة معه وعزله عن أي مشهد سياسي قادم، ورافق هذا التقارب إعداد معسكرات لنجل الرئيس السابق طارق صالح في عدن على حساب تشكيلات الإخوان بعد أن تم جرّ البعض منها إلى محارق الساحل الغربي، والبعض الآخر تم نقلها إلى محافظة مأرب بإشراف الجنرال الأحمر الذي عجز مؤخراً عن تهيئة موطئ قدم له في الجنوب بفعل انتفاضة الجنوبيين ورفضهم لذلك المخطط المكشوف، لكن الواضح أن المستفيد من إذكاء الصراع الحالي في مدينة عدن هو هذا الحزب، فما إن يخف الضغط على الجبهات العسكرية البرية التي ينتحر فيها مرتزقة العدوان، إلا وتظهر نشاطات القتل الأخرى وبطريقة ممنهجة ومنظمة، والمتتبع للواقع خلال الشهرين الماضيين سيجد أن دولة الإمارات دفعت بكل أبناء الجنوب إلى محرقة الساحل الغربي، وعززت بألوية الحماية الرئاسية التابعة لهادي بعد التهام كتائبها الأولى في سواحل الغرب اليمني، بينما لم تعزز الرياض جبهاتها الخلفية الأخرى في صنعاء والجوف وصعدة والبيضاء بمرتزقتها من حزب الإصلاح لاستغلال فجوة ما للتقدم والاختراق، بالتزامن مع التحشيد الكبير للجيش اليمني ولجانه الشعبية في معارك الساحل الغربي، في هذه الأثناء كانت مدينة عدن الجنوبية هادئة والحياة فيها طبيعية إلا من عشرات الجثث التي تعج بها مستشفياتها من قتلى معارك الحديدة وضواحيها، وما إن عادت تشكيلات هادي والإصلاح تستعيد عافيتها مجدداً في عدن إلا وبدأت مسلسلات المفخخات والاغتيالات للعمل من جديد.

يعترف الجنوبيون بأنهم ارتكبوا غلطة مصيرية يوم أن ساندوا الاحتلال وشاركوا في قتال إخوانهم من الجيش واللجان الشعبية لإبعادهم عن عدن الآمنة والوادعة، فقد كانوا يعتبرون وجودهم سبباً مباشراً للتعاسة والشقاء، وحاجباً فعلياً يفصلهم عن جنان قوى العدوان ومروجها الخضراء، لكنهم وجدوا في القادمين جحيماً يفتك بحياتهم في منازلهم ويصهر أرواحهم في زوايا السجون السرية ومتاهات المعتقلات الوحشية، حتى أولئك الخطباء الذين يتم اغتيالهم لم يعلنوا عداءهم مطلقاً لسياسات العدوان فكل خطبهم تسبح بحمد الإمارات وتعظم نعم الرياض، ومع ذلك يدفعون حياتهم ثمناً رخيصاً لذلك العطاء، ويتركون وراءهم دروساً خالدة لبائعي الأوطان ودعاة الارتهان والامتهان.

بقلم: فؤاد الجنيد