الخبر وما وراء الخبر

شهر رمضان في مواجهة العدوان

65

بقلم / حمود الأهنومي

تمهيد

هيأ الله عز وجل للإنسان مصادر كثيرة لنيل الهداية والنور والفرقان والتقوى، لتكوين الحاجة المعرفية الضرورية والمهمة التي تكوِّن الأرضية الصحيحة للتحرك الإيجابي الفعال والنشط في التحرك في الحياة بكافة تفاصيلها.

هذه المصادر منها ما هو أصلي كنعمة العقل، ومنها ما هو متجدد وموسمي، ويشكل طاقة إيمانية تزود الإنسان بما يحتاجه لتقويم نفسه وتصحيح مساره وتغذية عقله وضميره وفطرته بالقيم الإيمانية والتنويرات الربانية، ومنها تلك المواسم العظيمة كرمضان وليلة القدر التي هيأها الله لعباده، فضاعف خيرها، وأجزل عطاءها، وبارك فيها، فمن أخذها أخذ بحظ وافر.

الطاقة الرمضانية

يشكِّل شهرُ رمضان والصيامُ فيه والقيام والتقرب إلى الله فيه بأنواع القرب طاقة إيمانية متجددة عليا ورفيعة، من حيث أنه مدرسة متكاملة تعيد تهذيب طباع الإنسان، وتربيته، وتدريبه، وتمرينه، وإعادة صياغته بما يتناسب والإرادة الإلهية الكريمة، إنه يزوِّد الإنسان بالقوة الهائلة التي تتصاغر عندها كل الخطوب، وبالعزيمة القوية التي تتكسر أمامها كل المصائب، وتهون في ساحتها كل الآلام.

يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) البقرة183، ويقول عز من قائل: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) البقرة185. تصرِّح الآية الأولى أن الغاية أو النتيجة المرجوة من الصيام هو رجاء حصول التقوى للصائم، وتشير الآية الثانية إلى كون القرآن كتاب هداية، وفيه البينات الهادية، وهو الفرقان الذي يفرق بين الحق والباطل، والتقوى المرجوة من وراء إيجاب الصيام هو ما به الإنسان يُحرِز نفسه من سخط الله، إنها الرقابة الذاتية المسيطرة والمتحكمة في قرارات الإنسان ومواقفه المختلفة في جميع محطات حياته، هذه الرقابة الذاتية التي أصبحت خُلُقا من أخلاق المؤمن، وسجية من سجاياه، والتي هي غاية أو نتيجة للصيام، تفترِضُ أن يكون الإنسان في حالةٍ هو أقرب فيها للكمال البشري، والخلُق المطمئن السوي.

إن الصوم الذي غايته أو نتيجته التقوى، يعني حصول منظومة من القيم والأخلاق التي بمجموعها تشكل الإنسان السوي، ويعني الإخلاص، ويعني التذلل والخشوع أمام إرادة الله، ويعني الانقياد المطلق لحكم الله، ويعني الإحساس بالآخرين، ويعني الرحمة، ويعني رقي النفس البشرية عن أوحال المادية، وتطهُّرَها عن الأوساخ المكدِّرة، إنه يعني الصبر، ويعني الظفر، ويعني النصر، ويعني القوة الإيمانية التي ترتبط بالقوي الجبار، إنه يعني الانفتاح الكامل على الله، والتحليق أكثر وأكثر في عالم الروح، بقدر البعد عن عالم البدن والجسد، وفي هذا يقول أمير المؤمنين عليه السلام (ولكلّ شيء زكاة، و زكاة البدن الصّيام). والزكاة هي التطهر والرقي والعلو المعنوي.

مدرسة متكاملة

يظهر إذًن أن الصيام مدرسة كاملة كفيلة بتطهير نفس الإنسان، وتقويم سلوكه، ورقي طباعه، وخلوصه لله، وإعادة صياغته على الشكل المطلوب، وانفتاحه على عالم الروح، وتوثيق عرى ارتباطه بالله القوي الجبار الناصر المعين، وفي الحديث القدسي (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) ما يشير إلى أهمية الصيام وعظيم أثره في صياغة الإنسان وتشكيله، وإعادة تأهيله بشكل متكامل للحياة كما يريدها الله تعالى، بدءا من الإخلاص الذي يمثِّل الارتباط الحقيقي بالله عز وجل، واستصحابا للصبر الذي يعتبر الحارس الأمين للمتقي، فيكون الإنسان بعدئذ هو الإنسان الذي يتوازَن فيه الروحُ والبدن، هو الإنسان الذي تطَهَّر بدنُه من رجس الماديات، وانعتقت نفسُه من أوحال الدنيا، فلم يَعُد يثقل بدنُه روحَه، ولا تنحدرُ نفسُه بعقله.

يشكل الصيام والصلاة في رمضان أهمَّ رافدَين للقوة المعنوية التي يجب أن يكتسبها المؤمن، ولهذا يُعلِّمنا القرآن الكريم التعويل عليهما في الاستعانة المطلقة، يقول الله تعالى: (واستعينوا بالصبر والصلاة وانها لكبيره الا على الخاشعين) البقرة 45، ويقول تعالى: (واستعينوا بالصبر والصلاة إن اللّه مع الصابرين) البقرة 153، والاستعانة المطلقة باب واسع يطرقه المؤمن ويجد الله عنده بشكل دائم.

شهر الصبر

هذه التقوى التي يشكل الصيامُ أحدَ عواملها ومؤثراتها هي التي تجعل الإنسان مؤهَّلا للقيام بتنفيذ إرادة الله، ويشكل الصبر في منظومة التقوى هذه أهم القيم الراسخة والمكتسبة من بركات هذا الشهر؛ ولهذا ورد في الحديث النبوي أن شهر رمضان (شهر الصبر).

يعتبر الصبر أقوى أداةٍ ضبطية يتمتّع بها الإنسان المتقي، والتي بها يكون متحركا تحركا إيجابيا مثمِرا ونشِطا وفعالا في عالم القربة إلى الله. إنه قوة داخلية عميقة يبدأ باعتباره معرفة فاعلة، ويتترجم واقعا باعتباره سلوكا نشطا فعالا مؤثرا، ويتفاعل باعتباره وجدانا متيقَّنا ومقتنعا، يضبط الإنسان عند الشدائد، ويهوِّن عليه المصائب، ويدفعه للتحرك إلى الأمام في المسارعة إلى الطاعات والاستمرار عليها، وكبح جماحه عن المعاصي. الإنسان الصابر هو الذي لا يتأخر حيث يجب التقدم، ولا يتقدم حيث يجب التأخر، ومثلما لا يرتاع للنوازل والمكاره، لا تبطره النعم والفواضل.

مع الصبر الظفر

وفي خضم هذه الأمواج، من الحروب الظالمة، وليالي الاستبداد والاستكبار القاتمة، ما أجدرَ الإنسانَ المؤمن وهو يخوض معركة الفضيلة أن يتسلّح بهذا السلاح الفعال والنشط والقادر على قلب الموازين المادية رأسا على عقب.

المجاهد في المعركة بالصبر يكتسب قوة إضافية إلى قوته، وطاقة متنامية إلى طاقته، ويقينا متعاليا إلى يقينه، ويجعل له النصر والظفر خاتمة طبيعية في نهاية المطاف، بالصبر لا شك أنه سينتصر المجاهد بقوته المادية المتواضعة وبزاده الروحي المرتفع حين يقف أمام الطغاة والجبابرة بقوتهم المادية المرتفعة ومعنوياتهم الروحية الهابطة، وهذه تجارب الأمم تزودنا بحوادثَ وأحداثٍ كثيرة تُثبِت هذه الحقيقةَ التي علّمنا إياها القرآنُ الكريم، وهي الحقيقة التي تُعلي من شأن هذه القيم المعنوية والروحية أمام الإمكانات المادية الهائلة.

الله مع الصابرين وليس مع المستكبرين

لما جاوز طالوتُ وجنودُه النهر، ورأوا إمكاناتِ عدوهم جالوت المادية الهائلة والمتفوقة، تحدث فريقان من جنود طالوت عن توقعاتهم، فقال المتعجِّلون الذين لا يضعون حسابا للقيم الروحية والمعنوية، والذين يقيسون الأشياء بمقاييس المادة البحتة: (لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده)، لقد أسرعوا بالتعبير عن توقعاتهم المتهالكة، شأنُهم شأنُ الضعاف الذين يسارعون بإبداء الرأي السريع، والنظرة المادية الخاطفة، ومن بيان القرآن الكريم أنه بدأ بحكاية موقفهم، غير أن الفريق الآخر- الذي يعيش حياة الإيمان، ويكتسب قوته المادية من قيمه الروحية، ويؤمن بقضية الصبر والروح وتفوُّقِهما على قضية المادة والعدة، ويصدرون أحكامهم المتأنِّية نتيجة النظر في سنن الله التي لا تغيب عن الواقع – أعلنوها بصراحة اليقين: (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) البقرة249.

إنهم إذا في هذه الحالة التي لا يكون فيها تكافؤ في الإمكانات المادية العسكرية يطرقون أهم إمكانية يُمكنها قلبُ الموازينِ المادية رأسا على عقب، إنها إمكانية الصبر، التي لن تكون بمستواها العالي (الصبر الجميل) (صبر أولي العزم) إلا في صف المؤمنين، الذين ينفتحون بقلوبهم وعقولهم على الله (الصبور) (الناصر) (الوكيل)، ويرتبطون به ارتباطا وثيقا، ويرتقون في أسبابه؛ لهذا يعلنون أن الصبر بتوفيق الله وإمداده هو ما سيغيِّر موازين القوة المادية على الأرض، (وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) البقرة250. وكانت النتيجة أن (قتل داوودُ جالوتَ وآتاه الله الملك).

الصبر في مواجهة العدوان السعودي الأمريكي

إن التاريخ مليء بهذه الأحداث التي تصلح أمثلة لهذه الحقيقة، ومن ذلك معركتنا اليوم ضد العدوان السعودي الأمريكي التي يظهر فيها جليا وواضحا أن مجاهدي يمن الإيمان يتفوقون على عدوان قرن الشيطان بهذا العامل المعنوي القوي، بالصبر استطاعوا الثبات هذه المدة الطويلة، وبه كبحوا جماح آماله العريضة وأهدافه الكثيرة المتمثلة في الانكسار أمام جبروتهم وطغيانهم ومجازرهم، وبه ثبتوا كالأسود في ميادين الجهاد، وبه انطلقوا شرقا وغربا لكسر قرنه الإبليسي وغوايته الشيطانية، وبه ظهروا كالأسود الضارية يهاجمون معسكرات العدو، فلا يلوي جنودهم على شيء سوى الفرار.

إن مشاهد كرِّ وهجوم مجاهدينا الأبطال – في ظروفهم وأسلحتهم وخياراتهم المتواضعة ضد العدوان في ظروفه وأسلحته وخياراته المادية العسكرية المرتفعة والمتطورة حيث يفر جنوده فرار النعاج من الأسود – لتشكّلُ مثالا رائعا وحكاية جميلة تُبرِزُ هذا العامل العظيم الذي سيكتب النهاية العزيزة لأولياء الله وإن ضعفت إمكاناتهم، والذليلة لأعدائه وإن عظُمت خياراتهم.

المجاهدون الأبطال بحاجة إلى الصبر في كل لحظة من لحظات تحركهم الجهادي من بدايته إلى نهايته، وأعظم صبر يجب عليهم هو الصبر على الامتثال لتعاليم الكتاب والسنة الصحيحة، ثم الامتثال لأوامر القادة المحنكين والمجرِّبين، والحرص على الاعتصام وتجنب التنازع، حيث يورث ذلك الصبرُ الظفرَ، (وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) الأنفال46.

الصبر والأمة

الأمة اليوم بحاجة إلى الصبر ليس في ميدان المعركة المباشر فقط، ولكن أيضا في الميادين المختلفة التي تتعلق بالمعركة، نحن بحاجة إلى الصبر الذي يثبّت الأقدام في المعركة، وفي الموقف الحق، وفي الطريقة المرضية، وفي تجاوز الشائعات، وفي الترفع على الأذى الذي يبخس المجاهدين وأهل العطاء، وفي التعالي على إساءات المنافقين، وعند تشفيهم من تضحيات المجاهدين، وفي التغلُّب على كيد المتآمرين، كل ذلك نستطيع تجاوزه من خلال الصبر، يقول الله تعالى: (إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) آل عمران120.

الأمة بحاجة إلى الصبر الذي تولِّده فيها طاقة رمضان الإيجابية وهي تخوض معركة التحرر والاستقلال ضد الاستكبار العالمي وأدواته، والذي يقتل الأطفال والنساء، في ظل تضليلٍ إعلامي إبليسي، يقتلهم ويزعم أنهم أهداف عسكرية، ومخازن للأسلحة، ويخنق الصوت الإعلامي الموصل للحقيقة، ويضلِّل الرأي العام العالمي – شأنه شأن الشيطان – بتضليلات مختلفة، ما أروع هذا الشهر الكريم وهو يزود المؤمنين بطاقة (الصبر الجميل) الهائلة، حتى لا تنكسر نفوسهم وتنهزم معنوياتهم، ريثما يظهر الحق الصراح، ويشرق النور عند انبلاج الصباح.

عاقبة الصبر الجميل

لما ضلّل إخوة يوسف عملَهم الرديء وكيدَهم لأخيهم، اتخذ نبي الله يعقوب قرارا بـ(الصبر الجميل) وهو الصبر الكامل، الصبر الذي لا ينهزم للواقع التضليلي، ولا ينكسر للمادية المُوحِشة، الصبر الذي يؤمِن بأن ضوءًا للحقيقة سيظهر في نهاية النفق المظلم، الصبر الذي يوقن بأن العاقبة هي للمتقين، وأن النصر حليف المؤمنين الصابرين، لقد أعلن نبي الله صبره الجميل عند فقدان يوسف، ومحاولة إخوته تضليل فعلتهم المنكرة به، (وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) يوسف18، ثم أعلنه مرة أخرى عند فقدانه أخاه الصغير، قائلا: (قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) يوسف83، وفي كل مرة كان يثق في أن صبره الجميل ما هو إلا جسر يمر من خلاله إلى نور الحقيقة، وفلق البرهان، وانتصار الحق، وانزهاق الباطل.

ثم كانت النتيجة أن انتصر الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إبراهيم، وانتصرت حقيقة الصبر الجميل، (قَالُواْ أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَـذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) يوسف90، وكل ذلك بالصبر.

نحن والصبر

وعودا على بدءٍ؛ فنحن اليوم وقد تكالبت علينا الأمم، وتظافرت الماديات لتُطفِئ نورَ حقِّ مظلوميتنا، وضللت القنوات الإعلامية هذه المظلومية، وأثارت حولها غبارا حجب نور شمس حقنا، فما أحرى المجتمع أن يصبر الصبر الجميل الذي يثق بأن ما يحصل نوعٌ من الدراما التي قطعا ستنتهي عند اضمحلال جولة الباطل، وهذا الصبر الجميل هو ما يحقّر أذاهم، يقول الله تعالى: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) آل عمران186. وطالما كان هذا سلوك المجاهدين الصابرين الماضين على درب الإيمان الذين لا يلتفتون إلى السفاسف ولا يعتبرونها ذات أهمية، (وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) إبراهيم12.

بالصبر تستطيع الأمة تجاوزَ محنتها وآلامها والانتصارَ على بلائها، وبه تتحقق الخيرية والاصطفائية لأهل البلاء من المؤمنين من الذين ابتُلوا في أموالهم وأنفسهم، وبالصبر يصغُر هذا الأذى المتمثل في الإعلام الإبليسي والتضليل الإعلامي، والذي يقصد به انتهابُ عقول الناس، وبعثرة اطمئنانها، والإطاحة بيقينها عن خاتمة النصر ويقين الظفر، وبه تقدِر على مواجهة مصاعب الحياة، فتجتاز الأهوال بتؤدة وطمأنينة، ولا تبالي بشظف العيش، ولا بمعرة الحرب.

بالصبر المتولد عن الصيام والقيام في رمضان وبركاته الكثيرة وخيريته العميمة يؤيد الله المجاهدين بالملائكة المردفين، ويختم لهم بالنصر المبين، وبالفلاح الكبير، يقول الله تعالى: (بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ) آل عمران125، ويقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) آل عمران200

لقد فاز الصابرون، وانتصر المرابطون الثابتون، كما هو منطق القرآن، ومنطق التاريخ، ولا تستقيم طاعة من الطاعات إلا بحضور الصبر ولا تجتنب معصية من المعاصي إلا به أيضا، ولهذا لا غرابة أن قال الله تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ)، كما لا عجب أن هيأ الله من الصابرين الموقنين قادة الخير وأئمة المؤمنين حيث ابتلاهم فنجحوا، وامتحنهم فأفلحوا، قال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) السجدة24.